منذ بداية العام (2011م) وحتى نهايته، كانت صورة جديدة للحكم في أربعة أقطار عربية - على الأقل - ترسم بدرجات متفاوتة من وضوح الخطوط والألوان على تربة تلك الأقطار التي اهتزت وربت بقوة الانتفاضات الشعبية، الهادئة أحياناً (كما في المغرب) والمسلحة أحياناً أخرى (كما في ليبيا) والعارمة (ولكن بدون سلاح) كما في تونس ومصر. منذ بداية العام (2011م) وحتى نهايته،
كانت صورة جديدة للحكم في أربعة أقطار عربية - على الأقل - ترسم بدرجات متفاوتة من وضوح الخطوط والألوان على تربة تلك الأقطار التي اهتزت وربت بقوة الانتفاضات الشعبية، الهادئة أحياناً (كما في المغرب) والمسلحة أحياناً أخرى (كما في ليبيا) والعارمة (ولكن بدون سلاح) كما في تونس ومصر. يتضح في الصورة التي تم رسمها حتى الآن وجه التيار الإسلامي. أي أن زمام الحكم سيكون بيد الأحزاب الإسلامية التي فازت في الانتخابات - باستثناء ليبيا التي تحكمها (الشرعية الثورية) إلى أن تجري الانتخابات في منتصف عام 2012. ليس مفاجئاً أن يحصل التيار الإسلامي على السلطة السياسية منتخباً من الشعب بل إن هذا هو التطور الطبيعي لتاريخ سياسي عاصف ومتقلب عايشته شعوب المنطقة العربية. إن الشعوب - بطبيعتها - تصدق شعارات الحكام (أو طالبي الحكم) الذين يعلنون بأعلى صوت أنهم منهم ويعملون فقط من أجلهم ويعدونهم بحال أحسن من حالهم السابقة، فإذا يئس أفراد الشعب وخابت ظنونهم، انكفأوا على ذواتهم واختزنوا مرارتهم إلى أن تقدح شرارة حدث معين فتوقظهم ويلهب مشاعرهم - ولعكم تذكرون حادثة بوعزيزي في تونس. لقد توالت على شعوب المنطقة العربية حقب تاريخية - حقبة تلو أخرى، فعاصر الناس نشوة القومية العربية والتحرر من الاستعمار إلى أن أخمدت نارها المتوهجه هزائم متتالية من الداخل. فتوجهت بعض أنظمة الحكم وجهة التيار الاشتراكي واليساري، لكن مداه كان قصيراً وجمع بين رأسمالية الدولة والبيروقراطية الحكومية وحكم الفرد (بمعونة الحزب أو العسكر أو كلاهما) ففشل في حرب التنمية والحرية السياسية. وأعقب هذه الحقبة القصيرة حقبة ساد فيها الحكم السلطوي الدكتاتوري الطويل الأمد (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا) الذي ليس له وجه يعرف به، ففيه شيء من الاقتصاد الحر، وشيء من رأسمالية الدولة، وميل إلى الغرب تارة وإلى الشرق تارة أخرى من أجل أن يطول بقاء الحاكم وسيطرته على موارد دولته ويجعله يرضي الجميع من حوله - ما عدا شعبه. إذ إن أخطر ما في هذا النموذج تركز الثروات في أيد قليلة تدور في فلك الحاكم الفرد، فتمتص خبرات بلدها وتمنع وصولها إلى سائر الشعب. وهكذا فإنه بعد أن خبرت شعوب تلك البلدان نماذج من أنظمة الحكم المتعاقبة وعانت منها الأمرين، لا يوجد إذن ما يوجب الاستغراب من وصول التيار الإسلامي إلى الحكم وهو الذي لم تجربه بعد. وما دامت هذه الشعوب قد ترك لها الخيارفإنها تختار الأقوى ظهوراً وإمكانيات، والأقرب إلى ثقافتها ومفاهيمها التي تغلب عليها النزعة العاطفية والروحية الملائمة لمستوى وعيها وقت الاختيار. وسوف يكون على التيار الإسلامي الحاكم أن يزيح الغطاء عن الوجه المدني للإسلام لكي يكون مقبولاً. ولو تساءلنا متعجبين: هل للإسلام وجهان، وجه ديني ووجه مدني؟ فالجواب: نعم، كما أن للعملة الواحدة وجهين، لكنهما وجهان متوازيان لجسم واحد يستحيل فصلهما لكنه لا يمكن خلطهما. لذلك ليس المطلوب من التيار الإسلامي أن يفصل الدين عن الدولة - على النحو الذي تحبذه العلمانية - بل المطلوب هو عدم خلطهما. سوف تتجلى ملامح هذا الوجه المدني في أن يثبت التيار الإسلام الحاكم لشعبه أنه لا يفرق بين أحد من أفرداه وفئاته في الحقوق والواجبات وأن يثبت قدرته على إدارة البلاد والاقتصاد وتطوير الخدمات والنهوض بالعلم والفكر وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة والأمن والعيشة الراضية لكل مواطن وترسيخ روح المواطنة والتسامح والانضباط والإخلاص واحترام الحقوق. ولن يكون هذا التحدي من الداخل هيناً، بل يتطلب استنفار كل الطاقات والإمكانات لمواجهته. فإن نجح التيار الحاكم في ذلك كسب ثقة الناخبين مرة أخرى في انتخابات قادمة. لكن هذا يجب أن لا يصرف نظره عن رؤية التحدي من الخارج. وأعنى به إقناع العالم الخارجي بجدارته القيادية وأسلوب حكمه الديمقراطي، وبقبول التعامل معه بودّ واطمئنان وثقة، وبجدوى التسابق إلى توثيق العلاقات معه مادام بعيداً عن الطائفية والتطرف أو التعصب والغطرسة أو الإرهاب ومنطلقاً من كون الإسلام دين محبة وسلام، وليس دين كراهية وعدوان إلا على من اعتدى. ولسائل أن يسأل: ما أهمية الالتفات إلى هذا التحدي الخارجي؟ هل هو مركب نقص؟ أم مداهنة ورياء لجلب مصالح؟ أم خوف وحذر؟ وهل الإسلام بحاجة إلى هذا وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده؟ وجواب هذا السؤال موجود في الإسلام نفسه. فإنه لا يظهر لغير المسلمين على حقيقته الصافية، بل من خلال تطبيقات المسلمين أنفسهم - قليلهم أو كثيرهم. في العصور المتأخرة ظهر المسلمون متخلفين، يلّفهم ظلام الجهل والتشتت والضعف والخرافات واضطراب الأحوال المعيشية - حتى لقد قال أحد علمائهم عندما رأى أحوال أوروبا (ولعله الشيخ محمد عبده) أنه رأى في الغرب إسلاماً بلا مسلمين وفي الشرق مسلمين بلا إسلام. وهذا يعني أن الوجه الحضاري للإسلام غائب في بلاد الشرق - قد غيبه أله، ولذلك استعمروا وأهينوا: (من يهن يسهل الهوان عليه ..ما لجرح بميت إيلام) وفي العصر الحاضر لم يواجه المسلمون تحدي الدول المتحضرة بإبراز قدرة الإسلام الكامنة على التطور الحضارية فكرياً ومادياً، بل - عوضاً عند ذلك - تحاشوا المواجهة الحضارية مكتفين باستهلاك ما أفرزته الحضارة الغربية من إنجازات مادية ومتكئين على مجد أسلافهم. وزاد البعض منهم على هذا العجز بمشاعر التعصب والكراهية وإثارة الحروب الإرهابية باسم الإسلام والجهاد، وهكذا صبغوا هذا الدين بصبغة قاتمة لا يرى غير المسلمين وراءها أي شيء، وعلى هذا النحو أعطى بعض المحسوبين على الإسلام لبعض قادة الفكر والسياسة والإعلام في المجتمعات غير الإسلامية الذريعة القوية لوصم الإسلام بأنه دين يحض على الكراهية والإرهاب، وأن المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم مصدر إزعاج وخطر - ولعل هذه هي الذريعة الوحيدة التي لم يسدّها الغلاة المتشددون! ومن غير شك فإن إبراز الوجه المدني للإسلام عندما تتولى الأحزاب الإسلامية المعتدلة المنتخبة السلطة في بلادها كفيل بطمس الصورة السلبية عن الإسلام في عيون الآخرين، وكسب احترامهم وجذب اهتمامهم والاقتراب من قلوبهم قبل عقولهم، وإقناعهم بأن خطر الإسلام إنما هو على التخلف والجهل والظلم والاستعباد وليس على غير المسلمين. وخلاصة القول إن التيار الإسلامي المعتدل سيدرك عندما يتولى مسئوليات الحكم أن العناية بالشعائر الدينية والمحافظة عليها (الوجه الديني للإسلام - إن جاز هذا التعبير) لا يضيرها أن تسير جنباً إلى جنب مع إدارة الدولة بطريقة مدنية حديثة (الوجه المدني للإسلام).
بل إن هذه هي الطريقة المثلى لبناء عز الإسلام وقوته الذاتية، وهذا هو ما يرجوه المسلمون عند دعائهم في كل خطبة جمعة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.