الجزيرة - د. حسن الشقطي
يمثل التحفظ أجدى طرق التخطيط في الاحتياط للأزمات الاقتصادية لذلك أصبحت سياسة المملكة المتحفظة دوماً في الإيرادات، ومنهجها المنفتح في تجاوز سقف المصروفات المقدر وتقبل العجز، نمطاً مقبولاً ويشاد به دولياً. الكثير من الناس لا يفرق بين الموارد الطبيعية بالدولة وبين الموارد المكتسبة.. كما أن كثيراً منهم لا يفرق بين المزايا النسبية وبين المزايا التنافسية للدولة.. أكثر من ذلك، فإن الوضع يصبح أكثر تعقيداً في الدول النفطية أكثر من غيره من الدول الأخرى.. فقضية التنويع الاقتصادي دائما محل نقاش، والمفاضلة بين الناتج النفطي والناتج الصناعي التحويلي دائماً محل انتقاد، وخاصة كلما تضخم الناتج النفطي.. وتأتي المملكة على رأس الدول الخليجية التي يقسو فيها الجميع في الانتقاد، منتقصين من قيمة الناتج الصناعي، وما وصل إليه من إنجازات.. الكل حالياً ينظر إلى أن معدل التنويع الاقتصادي بالمملكة لم يصل إلى المستوى المأمول، وأن الدولة لا تزال نفطية، ومعدلات التصنيع لا تزال متدنية. أما الشيء الأكثر تعقيداً مع التطورات المثيرة في أرقام الإيرادات والمصروفات الحكومية ومن بعدها تضخم حجم الناتج المحلي الإجمالي، ومن قبلها تطورات سوق الأسهم، الشيء المستغرب هو التداخل والتشابك بين هذه المعطيات الاقتصادية الرئيسة بالاقتصاد السعودي.. بل إن نسبة نمو الـ 28% للناتج وتجاوز مستوى الاثنين تريليون ريال، ونمو الـ 15% للقطاع الصناعي لا تزال عالقة بالأذهان.. وتوجد هناك حاجة لمراجعة عادلة لطبيعة العلاقات بين أربع قوى اقتصادية هامة بالاقتصاد الوطني، هي: النفط والأسهم والميزانية والناتج.. من منهم يقود القاطرة السعودية؟ بل من يقود الأخريات؟ وهل من العدالة إرجاع النسبة الكبرى لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى النفط؟
النفط .. وقطار الميزانية
يعتبر النفط المورد الطبيعي الرئيسي بالدولة وتزايد أسعاره خلال السنوات الأربع الأخيرة لعب دوراً رئيسياً في دعم الإيرادات الحكومية، والتي قادت إلى تعزيز قدرات وإمكانيات الدولة على ضخ مستوى مصروفات عال ومتزايد.. لذلك، فإذا كان النفط هو القاطرة التي تسير وفقا لعوامل ومتغيرات خارجية عموما، فإن قطار الميزانية هو قطار تقوده سياسات محلية مخططة، وهو الذي ينعكس على مستوى مصروفات عامة هنا وهناك.. وتخصيص هذه المصروفات هو الذي يُمكن من صنع النمو أو الرجوع لمعطيات التنمية.. والجميع يعلم ماهية الفرق بين النمو والتنمية. فقاطرات التنمية تسير في أنفاق أدنى من طرق ومسارات النمو.. والفرق بين النمو والتنمية بمثابة الفرق بين قاطرات الفحم القديم، وبين قطارات خاطفة الصوت الحديثة.
الميزانية .. والسياسات الاقتصادية المتزنة
كثيرون ينتقدون السياسات المتحفظة في تقدير الإيرادات، والبعض يعتبرها سياسات تتصف بالخوف واحتساب درجات مخاطر مبالغ فيها، أو درجات مخاطر هي في الحقيقة غير موجودة.. ولكن كافة النظريات القائمة على فلسفة الحرية أو الرأسمالية أثبتت فشلها، وأثبتت أن نظريات اليد الخفية التي لطالما كانوا يتحدثون عنها في أنها قادرة على إعادة التوازن من جديد دوما، هي نظريات فاشلة.. فالتدخل أو التخطيط مع ترك قوى السوق تلعب دورها، بات هو المنهج المقبول دولياً.. لذلك، فإن التحفظ يمثل أجدى طرق التخطيط في الاحتياط للأزمات أو المفاجآت الاقتصادية وغير الاقتصادية.. وسياسة المملكة المتحفظة دوماً في الإيرادات، ومنهجها المنفتح في تجاوز سقف المصروفات المقدر وتقبل العجز، أصبح نمطاً مقبولاً ويشاد به دولياً.
نجاح القطاع الصناعي وقضية التنويع
كثير من الاقتصاديين دائما يتطلعون لمستويات تنويع اقتصادي أعلى، ودائماً يرون أن التنويع لم ينجح كثيراً بدول الخليج نظراً لضخامة حجم السيولة المتاحة، إلا أن هذا الكلام ليس صحيحاً على الإطلاق، لأن هناك فرقاً بين أن نطالب بمزيد من التنويع، وبين أن ننتقص من إنجازات تحققت على أرض الواقع.. وكل من ينتقد التنويع بالمملكة عليه أن يقارن بين حجم الناتج الصناعي بالمملكة وبين حجمه بدول عربية أخرى سبقت المملكة بالتصنيع، مثل دول شمال إفريقيا كمصر على سبيل المثال.. ستكتشف أن حجم الناتج الصناعي بالمملكة يفوق مثيله بمصر مرات.. رغم أن مصر سبقت المملكة في الدخول في مضمار التصنيع بعشرات السنين.. وعليه، ففي المملكة دائما المقارنات تكون غير عادلة عندما يتم مقارنة الناتج النفطي (هائل الضخامة) وبين الناتج الصناعي التحويلي، وهذه المقارنة ظالمة، والاعتماد على نسبة الناتج الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي أيضاً غير عادلة، ولا تعطي للصناعة السعودية مكانتها.. فالناتج الصناعي تجاوز مستوى الـ 150 مليار ريال، ونحو 30% منها تعود للصناعات التكريرية، ونحو 70% تعود لصناعات تحويلية أخرى.. وكلنا نعلم أن هناك دول عربية مستوى الناتج المحلي الإجمالي كله لها لا يصل إلى هذه القيمة. وعليه، فإن هناك فرقاً بين أن نطالب بالمزيد من التنويع الاقتصادي ومزيد من التصنيع التحويلي، وبين أن نراه مقصراً على الدوام ولم يحقق أي شيء.
الميزانية هي قاطرة الناتج
يعتقد البعض أن الميزانية والناتج شيئان متوازيان، ولكن في الحقيقة أن الميزانية أو بالتحديد جانب المصروفات فيها هو المحدد الرئيسي لمستوى الناتج المحلي الإجمالي.. والميزانية تحدد شكل وملامح السياسات الاقتصادية التي تتبناها الدولة، فإن كانت سياسة توسعية – مثل موازنة عام 2012م - فإن ذلك يعني إنفاق حكومي مرتفع بما يعني حركة وانتعاش في كافة أركان النشاط الاقتصادي، من بناء وتشييد ومقاولات ونقل ومواصلات وزراعة وصناعة وخدمات وعقارات وغيرها.. الأمر الذي يتوقع أن ينعكس على الناتج في العام التالي.. أي أن الميزانية هي التي تقود الناتج بشكل مباشر.
الأسهم .. وتشابك العلاقات مع القوى الاقتصادية بالسوق السعودي
البعض يعتقد أن الأسهم هي مضاربات وأسهم أدرجت وأخرى أوقفت فقط لا غير.. ولكن في الحقيقة الأسهم هي الوعاء التمويلي الذي يتأثر ويؤثر في كافة المتغيرات الاقتصادية.. بداية أسعار النفط ترفع الحالة النفسية للمتداولين في السوق السعودي، لأن النفط يمثل الغطاء الأقوى من أي غطاء مالي أو نقدي في تدعيم وضمان أموال المساهمين بأي شكل.. ثم أن الأسهم تلعب دوراً محورياً في حركة النشاط الاقتصادي، ومن ثم تحديد مستوى الناتج المحلي الإجمالي.. فهناك نسبة غير عادية ربما يكون من الصعب تحديدها، فهذه الشركات الـ 148 المدرجة بسوق الأسهم تعتبر من الشركات الكبرى بالاقتصاد الوطني، وهي بالتالي تشارك بنسبة محورية في الناتج المحلي الإجمالي.. وأبسط مشاركة يمكن احتسابها، هي أن الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 2163 مليار ريال، وقيمة رسملة سوق الأسهم تبلغ 1267 مليار ريال، أي أن سوق الأسهم يشارك على وجه التقريب (وبدون تدقيق) بما يزيد عن نصف قيمة الناتج.