للألوان حديث طويل وزاهي.. بدأ غزل خيوطه بداخلي منذ زمن الطفولة... ذلك الزمن الجميل الذي لم يتبق منه سوى ذكريات ملونة بشغب براءة الطفولة.. لكنها لا زالت عالقة بالذهن تعصف بذاكرتي من حين لآخر.
في طفولتي كنت أعشق حصة الرسم بجنون رغم أني لا أفقه شيئاً في فن الرسم.. فقط هي بالنسبة لي لحظات استمتاع لمزج الألوان.. والخربشة على الورق. في ذاك الزمن لم أكن أعشق القلم الأبيض... كنت أستبعده من علبة ألواني لأنه لا يلون.. وعندما كبُرت أيقنت جيداً أنه هو الصادق النقي الذي لا يستطيع إخفاء الحقائق خلف أقنعة مزيفة.
الألوان هي جزءٌ من حياة البشر... دلالاتُها كثيرة متنوعة تعكس تجارب وخبرات ومواقف تختلف من وقتٍ لآخر ومن مجتمعٍ لمجتمع.. لكن يبقى اللون الأحمر هو اللون الأقوى والأبرز في علبة الألوان...!!!
هذا اللون شكل هاجساً ذاتياً عميقاً في نفسي منذ طفولتي فأنا أحبه.. وأمقته!! وما زالت صورةُ كفي المخضبة بلون الحناء الأحمر القاني تحتل جزءاً من ذاكرتي... أزهو فخراً وانتشاءً بجمال وشدة حمرتها!!! (في زمن العولمة الجدات فقط هن من يعشقن تخضيب كفوفهن.. رغم أني أكاد أُجزم بأن معظم جدات عصر العولمة لا يعترفن بأناقة تخضيب الكفوف).
زمن طفولتي يذكرني بذاك الخط الأحمر الذي يقسم صفحاتِ دفاترنا المدرسية إلى قسمين... القسم الأكبر هو ما ندون فيه واجباتنا ودروسنا... ويحده خطٌ أحمر متوهج يفرض علينا منعَ التجاوز فننصاعُ لخطاب ذلك اللون الصامت... لكن رغم صمته فهو اللون الأكثر ضجيجاً وسلطة... الأكثر حياة وأناقة... والأكثر عمقاً ومعنى وحرفا... لونٌ يُسْكَبُ في الآفاق من شغب الأشياء.. ما أجمل هذا التناقض العجيب الغريب في هذا اللون المشاغب الأنيق!! نحبه ونخافه.. نعشقه ونمقته.. نحبه في الورد والتوت والكرز.. نمقته دوائرَ في نتائجِ أبنائنا وخطوطاً تحت أخطائِنا وننصاعُ لأمره عند إشارة المرور.. يرعِبُنا في سجل الحضور الوظيفي.... لأنه هديةُ الصباح التي تُقَدم لكل متأخر ليلتزم بقانونِ وعرفِ الانضباط.. غرائبُ تناقضاته تبدو مدهشة ومثيرة في بعض الأحيان!! ففي الوقت الذي يكون فيه رمزاً لكرم الضيافة بدلالة حمرة البساط المرادف لكل المناسبات.... ورمزية أناقته وألقه وفخامته التي تُضيفُ لمساتِها إلى زوايا منازلنا.... إلا أنه يُمَثلُ أمراً بالطرد عندما تنطلق صافرة الحكم معلنة البطاقة الحمراء... لطرد لاعب كرة ارتكب مخالفة على أرض الملعب.... هو لونٌ يُصيبُنا بالإحباط في مؤشرات الأسهم... وتؤلمُنا رؤيته على الجروح... لكننا نحترمُ رمزيتَه لدماء الشهداء.
للون الأحمر... ميزةُ الحضور القوي أمام الأعين... فُتِنَ به الإنسان دون غيره من الألوان... فنسج منه تاريخاً فريداً.... وكان وما زال يحمل إرثاً وطنياً وثقافياً ووجدانياً... حتى بعض المضامين السياسية كانت تخفي في بواطنها رموزاً حمراء... فهو رمز للشيوعية التي يُشار إليها بالحمر، والمد الأحمر... وهو الذي صنع على مر الزمن... جزءاً بارزاً من الأزياء الوطنية للبشر ابتداءً من الطربوش العثماني الأحمر... وانتهاءً بالشماغ السعودي الذي لا يقبل إضافة أي لونٍ آخر سوى الامتزاج باللون الأبيض ليبقى متوهجاً نقياً.
عوالم الأحمر عوالم لا نهاية لها... فهو دون سواه من الألوان يتمركز في جملةٍ من البنى الأسطورية والحضارية المُؤسِسَة لثقافة الشعوب...
هو لونُ الأساليب التعبيرية ومخاطبة المشاعر.. هو أحمرٌ في الرواية يأتي رمزاً وحدثاً وبطلاً يجذب انتباه القارئ فيجبره على قراءة الرواية ومعايشة أحداثها.
وإذا كان الأحمر مثيراً في الرواية.... فهو وهجٌ وترجمةٌ للوجدان وبدلالاتٍ مختلفة.... فالشاعر (عنترة العبسي) يخلط الدم بالورد مشيراً على عدة الحرب إشارة غزل ليصف الحبيبة وأشياءَها فيقول:
قَوَلتْ حَيَاءً ثم أَرْخَتْ لِثَامَها
وَقَدْ نَثَرَتْ من خدها رَطِب الوَرْدِ
وَسَلتْ حُسَاماً من سَوَاجي جُفُونِها
كَسيفِ أبيها القَاطِعِ المرهفِ الحدِ
حضورٌ استثنائي في وجدان الشعراء لا يضاهيه أي حضور آخر.. والشعر مزدحمٌ بهذه المفردة التي تأخذ بالألباب.. وتأسر القلوب بمدلولاتها المختلفة.... ورموزها التي قد تبدو غامضة في بعض الأحيان.... ولكن لعلي أستحضر من ذاكرتي بيتين جميلين يعبران عن احمرار العين حزناً:
شكوتُ إلى إلفي سُهادي وعبرتي
فقلتُ احمرار العينِ يُخبِرُ عن وجدي
فقال مُحالٌ ما ادعيتَ وإنما
قطفتَ بعينيك التوردَ من خدي
هذا هو لون التناقضات الذي نحبه ونخافه... لونٌ مثير يشكل مزيجاً ما بين الجذب والتنفير.. الاستقطاب والطرد.. الضجيج والصمت.. الغضب والحميمية.!!! لكن تبقى الخطوط الحمراء في هذا الزمن حداً قاسياً.. يُطيحُ بنواة التمرد المغروسة في قاع من يرفض الانصياع.