«يا ولدي لا تجعل بينك وبين الله أحد»، وُصاة جدي وأبي لي، هي خلاصة دعوة الرسل وجامع سبب خلق الإنسان واستخلافه في الأرض. وهي الوصاة التي تلقفها في حال شدة وهول من شاء الله فاصطفاه من أمراء وعلماء ليجدد به الدين، يحكي حال هول موقف التجديد والإحياء قول عنترة «ولقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بِالضُّحَى إِذْ تَقْلِصُ الشَّفَتَانِ عَنْ وَضَحِ الفَمِ» وشتان بين العتق في الدنيا والعتق في الآخرة.
وهي الوصاة التي نادى بها إمام التوحيد محمد بن عبد الوهاب، فكانت هي جامع محتوى دعوته التجديدية وغرضها. ومن فهم الوصاة وعمل بها أدرك عظمة الله جل شأنه فقدره حق قدره، فيستحيل أن يزل لسانه في جناب الله ولا كتابه ولا رسوله ولا أصحاب رسوله. فالقرآن هو كلام الله فتعظيمه من تعظيم قائله، وتعظيم حق الرسل والأنبياء من تعظيم الله واحترام أصحاب الرسل من تعظيم قدر الرسل.
وقد يزل اللسان وقد يُساء التعبير فيكون الاعتذار عن الزلة اللفظية أو الكلامية كافيا ومقبولا، ولكن الله ورسوله لا يزل لسان أحد فيهما إلا لنقص قدرهما في قلبه وهذا شأنه، فليس لنا الإكراه أو التنقيب ولكن لا ينشُرن المبتلى بلاءه على مجتمعه فهو بهذا يكون متعديا على حقوق المجتمع.
الإعراض في الفتوى عن الدليل الشرعي سواء بالتقليد أو بسد الذرائع أو بالمقاصد أو المصالح أو بالاحتيال هو من نقصان قدر الله في القلب. فالإعراض عن الدليل بحجة المصالح والمقاصد هو نوع من الاستدراك على علم غيب الله، وأما التحايل فهو استهزاء، لذا حقت على أهل الحيل لعنة الله ورسوله والمسلمين. ولذا تجد الزلات في حق الله ورسوله الكلامية والكتابية موجودة في فقهاء المقاصد والحيل مهما برعوا في التحدث والكتابة ومهما أُوتوا من فنون السياسية، فزلات اللسان تُظهر خفايا القلوب.
نحن اليوم نعيش عصرا من العصور المظلمة للفقه. فقد هجر فقهاء السلف تأصيل الفتاوى بالدليل الشرعي، واكتفوا بالتقليد، فلم يواكبوا المتغيرات ولم يجددوا صناعة الفقه. فلجأ الناس إلى فقهاء المقاصد وفقهاء الحيل فجعلوهم أئمة الدين، وهم لا يستدلون بدليل شرعي ولا يتفقهون بل تراهم يفتون هكذا بما يناسب مصالحهم ويعجب الناس، وقد يداعبون مشاعرهم بالسياسية، فافتُتن الناس بهم.
الإسلام دين الأميين، ونحن أمة أمية، والإسلام دين العرب والعجم. لذا فمن تمام كمال الدين بساطة الفقه ويسره، وهو سهل ميسر لمن فهم وصاة لا تجعل بينك وبين الله أحداً. فالأصل في الأحكام كلها «صلوا كما رأيتموني أصلي» «وخذوا عني مناسككم» فمن لم يستطع فالأصل «اتقوا الله ما استطعتم». وتنزيل النصوص على المتغيرات بعلل منضبطة ليس بالأمر الصعب، ولكن الصعب هو تخلية عقول الناس من التبعية المطلقة للفقهاء قبل تحليتها بنصوص الشريعة.
يا ترى من أقنع عقلاء مفكرين بأنهم لا يقدرون على فهم مسألة فقهية؟! ترى فرسان المناظرات مع مفكري العالم وقد استنوقوا بل استنعجوا أمام خذرفة مدعٍ للفقه، فضلا عن حديث فقيه، فهم قد رُوضوا على أنهم لا يستطيعون فهم مسألة فقهية في دين الأميين. أهو أمر عجيب! لا ليس عجيبا، ولنعلم كم عظيم هو أمر التوحيد، فالمسكوت عنه أن التبعية هنا ليست نقص في العقل ولا عجز في الفهم بل هي من باب نقص التوحيد، فهم لم يفهموا وصاة «لا تجعل بينك وبين الله أحداً» فخسروا دينهم ودنياهم وهم يظنون أنهم يحسنون عملا.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem