منذ فجر التاريخ والفلاسفة والمفكرون الكبار يحاولون صياغة فهم عام للوجود يتجاوز المسائل والمجالات المفردة المختلفة إلى ما يجمعها تحت قوانين عامة موحدة تحكم مجمل الأمور الإنسانية والطبيعية والتاريخية بحكم أن الإنسان ما هو إلا جزء من الطبيعة تشكله بشكل كبير ويؤثر فيها بشكل محدود.
وبالنسبة لكثير من العلماء فالأمور الصغيرة المنفردة إنما هي انعكاسات لقوانين عامة كبرى تحكمها، ومن هذه المبادئ هو أن قوانين الطبيعة قائمة على قيم متناقضة، لذلك فهي دائما عند تفاقم هذه التناقضات أو تختل تسعى لخلق توازنات جديدة بين تناقضاتها. وعندما تختل هذه التوازنات فإن الطبيعة تمر بمرحلة تشبه الفوضى تمر فيها بحالات فوران أو تخلخلات قوية تعيد التوازن من جديد عبر إفراز علاقات جديدة مهمتها احتواء هذه الاختلالات لتستقر مرة أخرى في شكل تناقضات جديدة قابلة للتعايش.
فالفوضى مع مرور الزمن تنظم نفسها بنفسها حسب السياقات التي ترد فيها، والعنف الطبيعي يأتي كاستجابة طبيعية لتغيرات جذرية، وهناك من علماء الطبيعة، مثلاً، من يرى أن الزلازل وحالات التسونامي العنيفة إنما هي استجابة طبيعية لحالات التغير المناخي والاحتباس الحراري الذي اختل فيه توازن العلاقات بين الحرارة والبرودة، وبين الأكسجين والكربون في الهواء، مما يتسبب في التصحر، واختفاء الغطاء النباتي الحافظ للتوازن البيئي.
والطبيعة في عنفها لا تفرق بين الإنسان وأي كائنات أو مكونات طبيعية أخرى، وتجرف كل ما يقف في وجه إعادة توازنها دونما اعتبار لطبيعته أو هويته.
وهناك من علماء النفس الاجتماعي من يري إمكانية قياس التغييرات الاجتماعية والنفسية في المجتمع وفق قوانين طبيعية مشابهة، لأنه لا بد من وجود حالة تناغم بين الإنسان والطبيعة تحكم وجودهما وتطورهما. فالمجتمعات عندما تتأزم تعيد إنتاج نفسها ولو بعنف وفق آليات تخلقها سياقات الأزمات لتعيد صياغة علاقات مكوناتها من جديد. فالتغيير الاجتماعي الجذري يحدث عندما تصل التناقضات في العلاقات حدا لا يمكنها من التعايش فيما بينها، فتعيد إنتاج نفسها في تناقضات جديدة عبر تحولات عنيفة في شكل حروب وثورات. وهناك من يرى أن ذلك يمتد لداخل الوضع النفسي للفرد ذاته، فمعظم من ينضمون للحركات الثورية أو الجماعات السياسية المتشددة التي تنشد التغيير بأي ثمن هم ممن يعانون عدم توازن نفسي داخلي، ومن قلق ذاتي، أو صعوبة تأقلم فردي اجتماعي، مما يكون عندهم الاستعداد للتضحية بأنفسهم.
وعندما تكلم الأمريكيون عن الفوضى الخلاقة في منطقتنا لم يكونوا يتكلمون عن فرض فوضى فيها كما يعتقد الكثيرون، بل كانوا يتكلمون عن فوضى متوقعة ستحدث فيها، وكانوا يرون أن منطقتنا مقبلة على نوع من الفوضى تفرضها تغيرات في التوازنات والعلاقات الجيو-سياسية فيها، خصوصاً بعد اختفاء دولة عربية كبرى كالعراق وتغير هويتها بشكل جذري، وعندما نتكلم عن اختفاء العراق كدولة عربية نتكلم عن اختفاء الهوية العربية للعراق مما سيتسبب في فوضى متوقعة في المنطقة برمتها لا بد وأن تسفر عن خلق معطيات جيوسياسية جديدة واضطرابات في المناخ السياسي للمنطقة. فما حدث في العراق هو تسونامي سياسي ضرب في عمق الهوية العربية وبدأت موجاته تصيب المناطق المجاورة. وهذا يعني أن العالم العربي، إذا جازت لنا التسمية بعد تنصل الكثير من عروبتهم، يمر اليوم فعلا بمرحلة من الفوضى التي لا بد وأن تسهم في إعادة صياغة العلاقات التي تحكمه من جديد وبشكل خلاق غير مسبوق سيصاحبه عدم استقرار وتجاذبات بين أطرافه السياسية قبل أن يصل إلى مرحلة من الاستقرار، وقد لا يستقر في المستقبل القريب. وهذا يفسر هذا ما يجري في البلدان العربية مما سمي بالربيع العربي، فتونس، واليمن، وليبيا تشهدان تجاذبات وعلاقات سياسية غير مسبوقة مثل توحد اليساريين والإسلاميين في تونس، وعدم الاستقرار في ليبيا رغم اختفاء القذافي ومحاولة الإسلاميين احتواء العروبين الخ... وكذلك ظهور قوى وهويات جديدة لها ولاءات خارج محيطها العربي كما في اليمن والبحرين.
وتمثل مصر حالة خاصة حيث إن ما تعانيه اليوم من مخاض لجمهورية مصر الثانية، كما تسمى، هو في الواقع مشكلة كبيرة في إعادة تحديد هوية مصر السياسية المستقبلية، مما تسبب في عرقلة انتقال السلطة بشكل سلس لأي حكومة منتخبة جديدة. وهناك صراع علماني ديني قوي في مصر يعمل بموجبه الجميع سرًا ويتنصلون منه علنًا. ومصر اليوم أمام خيارات مصيرية قد تتطلب وقتا طويلا للاستقرار. فما تعانيه مصر والدول العربية هو أزمات تحديد هويات تنازعتها الأيديولوجيات.
أما النظام السوري فقد قرأ الوضع مبكرا باستشعاره سقوط البعث العراقي والتغييرات التي طرأت على أكبر حدود له سياسية وجغرافية. ففي حسابات النظام السوري، وهو نظام طائفي يتلبس لباسا قوميا بعثيا، إيران هي من يخرج فائزا من الحرب، لذلك قرر الاصطفاف معها، باعتبارها الطرف الكاسب القوي القادم حتى ولو كان ذلك على حساب عروبة سوريا، وقد مهدت الأحداث ذاتها لتنفيذ سوريا لانقلاب مشابه في لبنان لمصلحة إيران عبر دعم وتسليح حزب الله وهو حزب يتبنى أيديولوجية زاحفة جديدة وهي الأيديولوجية الدينية المذهبية مقابل انحسار في المد العروبي في هذا البلد.
وهذه ليست المرة الأولى التي يمر العرب فيها بمثل هذه الفوضى الخلاقة، فقد مر بها العرب عقب الحرب العالمية الثانية حيث تصارعت الهويتان العروبية والإسلامية على مسرح العالم العربي طيلة عقود ما بعد الاستقلال، وقد حاول عبدالناصر فرض الهوية القومية العربية على العرب بما يشبه القوة، وبما يشبه التدخلات الإيرانية المذهبية في المنطقة اليوم. ومن سخرية القدر أن من دعم عبدالناصر في ذلك الوقت هو الاتحاد السوفيتي مشترطا فرض التوجه القومي الاشتراكي، ولم تكن الاشتراكية متوائمة مع الدول القطرية حينه نتيجة لتركيباتها السكانية والقبلية التي تتناقض مع طرح أحادية الطبقة التي نادت به الاشتراكية، وأن من يدعم إيران اليوم هو روسيا في سعي مشترك للصمود أمام الإمبريالية، وتقاوم إيران قوى إسلامية وقومية عربية على حد سواء.
الصراع الديني القومي كان أساس الفوضى الخلاقة السابقة وكان يمر بمرحلة هدوء وسكون بين فترة وأخرى بحجة مواجهة العدو المشترك: قضية تحرير الأراضي المحتلة بالنسبة للتيار القومي؛ وتحرير القدس، أولى القبلتين، بالنسبة للتيار الإسلامي. وانعكس هذا الأمر على المقاومة الفلسطينية ذاتها التي انقسمت بين مقاومة “وطنية” ومقاومة “إسلامية”. والغرب، وهذا ما يتضح من كتابات برنارد لويس الأخيرة، كان يعرف جيدا التغيرات الجذرية التي أحدثتها حروب الخليج، وقايض إيران وسوريا بالسماح بتعميق نفوذهما في المنطقة مقابل دعمها القوي للحصار على العراق العروبي ودعمها للحروب التي شنت عليه. ومن هنا سمح لإيران بالتسلح، وسمح لسوريا بالسيطرة على لبنان وتسليح حزب الله. كان تدمير العراق بمثابة رصاصة الرحمة على آخر معاقل القومية العربية بأشكالها الناصرية والبعثية وهذا وضع جديد سيحدث حتما نوعا من الفوضى التي ستخلق فوضى جديدة في المنطقة. ويمكن أخذ لبنان دائما كحالة مكروزومية لأوضاع العالم العربي لسرعة تأقلمه معها نتيجة لانفتاحه السياسي والاجتماعي.
الفوضى الخلاقة التي يراها الأمريكيون هي حالة سياسية ستسود مرحلة إعادة توازن سياسي واجتماعي للشعوب العربية في ظل غياب العروبة سواء كمد قومي أو اجتماعي مما ستفتح الباب على مصراعيه لظهور هويات جديدة، فالأزمة الحالية فيما يسمى بالربيع العربي هي أزمة هويات أيديولوجية، والغرب يتوقع صراعا مذهبيا قادما بين الاتجاهات الدينية التي خرجت منتصرة بكافة تناقضاتها، صراعا بين السنة والشيعة، وهو يدرك، أي الغرب، أن إيران تحاول فرض سيطرتها القومية الصفوية في المنطقة عبر أيديولوجية مذهبية، مما سيمهد لصراع طويل في المنطقة يحاول الغرب الاستفادة منه، وهذا هو السبب الحقيقي أيضا في أزمة الهوية الشيعية العربية، الشيعة العرب ممن يشكلون بقايا القوميين، والشيعة العرب الصفويون الذي يرغبون ويتوقعون صعودا إيرانيا قويا في المنطقة.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif