دعا فلاسفة القرون الوسطى الأوروبيون إلى ضرورة تجاوز نقد الدين إلى نقد الحقوق وتجاوز نقد اللاهوت إلى نقد السياسة.. حتى لا يكون النقد موجهاً إلى الدين بل موجهاً إلى استعمال الدين في الصراع الاجتماعي بين الطبقة البرجوازية وقساوسة الكاثوليكية.. لهذا فالبرجوازيون هم الذين رفعوا شعار الحرب ضد الدين.. فقد كان الدين هو السلاح الذي استخدمته الكنيسة الكاثوليكية حتى صارت أكبر إقطاعي في أوروبا إبان القرن الثامن عشر.. إلى درجة أن الكنيسة كَيَّفت هياكلها بحسب بنية النظام الإقطاعي حتى أصبحت هي نفسها (السيد الإقطاعي) إذ كانت تملك وحدها ثلث الأراضي الزراعية في أوروبا!.
من هنا كانت خطة البرجوازية الصاعدة إبان الثورة الصناعية أن تهاجم التنظيم المركزي المقدس ممثلاً في الكنيسة في روما قبل مهاجمة جزيئاته في كل بلد.. أي أن البرجوازية بدأت بمقاومة الكنيسة كقوة إقطاعية لكنها انتهت إلى مهاجمة الدين ذاته.. وبذلك انتقل الصراع بينهما من اقتصادي إلى فكري.
بعد نجاح البرجوازية في إضعاف حضور وتأثير الكنيسة الإقطاعي وصعود الصناعة كقوة اقتصادية مؤثرة وجدت أنها وَلَّدت عدواً آخر من صلبها سوف يقضي عليها كما قضت هي على إقطاع الكنيسة.. وهذا العدو هو الطبقة العاملة (العمال).
هذا العدو الجديد الذي وُلِد من رحم البرجوازية الصناعية الجديدة كان لا بد من مواجهته بسلاح مناسب وإلا التهم البرجوازية التي كانت قد بدأت للتو في الاستمتاع بمكتسباتها من انهيار إقطاع الكنيسة فما وجدوا سلاحاً أفضل من الدين «فلابد إذاً لهذا الشعب من دين».. فالدين الذي حاربته البرجوازية باعتباره أيديولوجيا الإقطاع أصبح في حربها مع عامة الشعب (البروليتاريا) أحد العناصر المكونة لأيديولوجيتها وتعبيراً من تعابيرها.. أو كما يصفه أحد فلاسفة ذلك العصر: «أصبح الدين بمثابة الضمانة الروحية للنمط الاجتماعي الذي أفرزته البرجوازية».. أي بمعنى آخر وكما يقول (إنجيلز): «إن الدين لم يعد دين المجتمع ككل بل صارت تستخدمه كل طبقة في حربها ضد الطبقات الأخرى لحماية مصالحها».. وهو نفس المعنى الذي يعيد صياغته الفيلسوف الآخر (بيريه): «إن الدين الواحد يمكن أن يتم تأويله بأشكال مختلفة: إقطاعيين، فلاحين، برجواز، بروليتاريا.. الخ».
ومن القضايا الكبرى التي أثارها فلاسفة تلك المرحلة أن أتباع الأديان كلها في بداية الأمر يكونوا من المستضعفين.. ثم تتحول من سيطرة الدين إلى دين السيطرة.. أي يتحول الدين من دين المستضعفين إلى دين السلطة.. وقد أثبت التاريخ أن رجال الدين بنوا سلطتهم الخاصة داخل السلطة مما كان يهدم أحياناً السلطة ذاتها.. وهو ما يعني أن الدين سلاح سياسي ذو حدين.. أي أن الدين زلاة يمكن أن يكون تعبيراً عن الخضوع أو وسيلة نضال.