لا يختلف اثنان في ظل تصاعد نبرة البرامج الإعلامية عن التقصير الإداري في بعض القطاعات، أن الداء الذي نعاني منه لدرجة الشلل هو المركزية في الإدارة، والتي تظهر في مختلف المرافق الحكومية، ويعاني بسببها المواطنون، ولن نحتاج إلى اكتشاف حلول لهذه الأزمة المستشرية إلا بإعطاء المناطق صلاحيات لإدارة خدمات التعليم والصحة والتنمية السياحية والصناعية.
لا يمكن على الإطلاق أن ينجح وزير في إدارة تطوير الخدمات الصحية في البلاد من خلال المركزية الإدارية، وما يحدث الآن في زارة الصحة من تحكم مركزي في القرارات في مختلف المستشفيات يكشف المشكلة التي نعاني منها في هذا القطاع المهم، والمفترض أن تكون مسؤولية الوزير إعداد الإستراتيجيات الصحية وإدارة برامج الوقاية والأوبئة والتثقيف والاقتصاد الصحي، بدلاً من حتكار قرارات مختلف التفاصيل..، وقد وصل التحكم في الصحة إلى أن يكون معاليه صاحب القرار في المكافآت وتوزيعها، ما يفتح المحسوبية من أوسع أبوابها، ويجعل من المقربين إليه في حياته العملية أولى بالمعروف من أي صاحب إنجاز لا يرد اسمه في تلك القائمة.
عانت البلاد لزمن طويل من تناقض قوانين العمل، والسبب أنها غالباً ما تُطرح على أنها حلول مستديمة من غرف إدارية مغلقة، ولم يشارك في إعدادها متخصصون من مختلف القطاعات، كان آخرها نظام نطاقات، وكانت النتيجة بحسب رئيس التأمينات الاجتماعية السابق وعضو مجلس الشورى سليمان الحميد، أن وزارة العمل أعلنت عن أرقام توظيف وهمية، وصلت إلى 700 ألف وظيفة خلال العام الماضي، وأوضح أن قاعدة معلومات التأمينات الاجتماعية تشير إلى أن 104 آلاف امرأة يعملن في قطاع التشييد والبناء بحسب تقارير وزارة العمل، ناهيك أن موجة الغلاء التي صاحبت أعمال مقاولات البناء والمنتجات الزراعية والمهن اليدوية كالنجارة والحدادة بسبب عدم وضوح الإستراتيجية في برنامج نطاقات، والذي ظهر في نسخته الأخيرة بديل غير مباشر لنظام حافز.
بسبب التخطيط المركزي في الخدمات البلدية، عانت الأحياء والضواحي وسكانها من سوء إدارة الأحياء، والتي تفتقر إلى أبسط التنظميات، لذلك تغيب الأسواق المركزية والخدمات الضرورية في الأحياء، وتظهر بقالات بدائية ومطاعم متدنية الخدمة على شوارع فرعية في الأحياء الكبرى، كذلك تفتقر الضواحي في مدينة الرياض على سبيل المثال من حس التنظيم السياحي والترفيهي والجمالي، فعلى سبيل المثال نجد في وسط ضاحية عرقة التراثية مساكن للعمالة في بيوت الطين القديمة، في حين يُنتظر أن تكون مثل هذه القرية مثالاً للضاحية السياحية التي تتميز بالأسواق الشعبية والتراثية والمطاعم والمقاهي العالية الجودة، وأن تكون بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها سكان العاصمة، ينطبق ذلك أيضاً على الدرعية التاريخية والتي شهدت تطورات، لكن بيوتها الطينية القديمة لا زالت أيضاً مساكن رخيصة للعمالة وتفتقر لروح التواصل الاجتماعي.
بسبب المركزية عانى التعليم كثيراً من تأخر بناء المدارس النموذجية، وقد نحتاج إلى معجزة من أجل توفير المدارس للأجيال القادمة، وهو التأخير الذي أنعش سوق المدارس الأهلية، وأثقل التكاليف على المواطن، ليصبح دخل المواطن ليس للإدخار، ولكن لإعادة تدويره في توفير التعليم لأبنائه، والشاهد في الأمر أن أكبر المستفيدين من ذلك التأخير كانوا مسؤولين سابقين في إدارة التحكم المركزي في التعليم، وهو ما يعني في صورة أخرى أن المركزية لا تخدم إلا أصحاب المصالح الخاصة، ولا يخلو الأمر من استثناءات.
ما ذكرته أعلاه مجرد أمثلة للأعراض الخطيرة لآفة الإدارة المركزية، التي تسمح بالتفكير في المصالح الخاصة، وتجعل من المواطن في حالة تذمر شديدة، تزيد من حدتها البرامج الإعلامية التي تتغذى من تجاهل الإدارات المركزية لنداءاتها لإصلاح الأوضاع، والتي لن تتجاوب، لأنها غير مضطرة إلى ذلك، في ظل غياب محاسبة مباشرة من قبل المستفيدين من هذه الخدمات، ولربما يخرج الحل من تفكيك نظام التحكم المركزي، وتوزيع صلاحياته على المناطق في ظل وجود رقابة مجالس مناطق منتخب على أداء خدمات الصحة والتعليم وتطوير الاستثمار الصناعي والسياحي، والله على ما أقول شهيد.