السنة: 1913م.
المكان: فيينا عاصمة النمسا.
فيينا: إنها مدينة ارتبط اسمها بالموسيقى الكلاسيكية والحفلات الفاخرة ورقصة الوالتز، وكانت آنذاك عاصمة الامبراطورية النمساوية المجرية التي اكتظَّت بخمس عشرة أمة مختلفة وصلت أعدادهم إلى 50 مليون شخص وهو عدد ضخم وقتها. المناظر التالية هي الهدوء الذي يسبق العاصفة.
المشهد الأول: رجل قاسي الملامح ينزل من قطار قادم عبر مدينة كراكاو البولندية حاملاً أمتعته في حقيبة خشبية عادية. إنّه نحيل، ذو شاربٍ كثّ ووجهٍ غَزَتْه آثار البثرات. يصفه رجل- وهو رئيس تحرير صحيفة كان جالسًا في المحطة - إن عيناه خاليتان من أيّ أثر للودّ أو اللطف.
المشهد الثاني: شاب ابن أربع وعشرين سنة ناعم الشَّعر قَدِم إلى العاصمة من شمال غرب النمسا محملاً بالطموح. لقد أتى ليلاحق حلمه بأن يلتحق بمعهد فيينا للفنون الجميلة ويصبح رسامًا.
حاول الشاب وحاول لكن لم يُفلِح بعد أن رفض المعهد مرتين انضمامه لهم، فذهب محبطًا وعاش بقرب نهر الدانوب في نُزُلٍ رديءٍ رخيص يقلّب كفيه لا يدري ما يفعل.
المشهد الثالث: جوزيب بروز رجل قصير في مُقتبل العمر. تنظر لوجهه فترى ملامح تجمع بين الصرامة والهدوء والوسامة، يعمل في مصنع ديملر للسيَّارات ودائمًا يبحث عن مصادر دخل متنوعة.
المشهد الرابع: يجلس شيخ كبير في قصرٍ مَهيب يتناول الإفطار.. لقد تجاوز الثمانين من العمر، وله شاربٌ ضخمٌ يتّصل بشعر وجّهه حتَّى يصل رقبته، عيناه الزرقاوتان نشطتان رغم عُمره، وفي قصرٍ مقارب هناك رجل في منتصف الأربعين ذو شخصيَّة نارية انفعالية ينتظر وفاة الشيخ.
هؤلاء غيَّروا التاريخ البشري، وإلى اليوم ونحن نعيش آثار أعمالهم. من هم يا ترى؟ حان الوقت لنعرف!
صاحب المشهد الأول ذو الملامح القاسية هو جوزيف ستالين الذي حَكَم الاتحاد السوفيتي (أكبر دولة في العالم وقتها) التي أرعبت الغرب وأمريكا، كان هذا الشيوعي طاغيةً سفاحًا حَكَم بالحديد والنار وقتل الملايين من البشر، كان هو قائد الاتحاد السوفيتي في الحرب العالميَّة الثانية، وجيوشه - بالرغم من أنَّها تكبّدت خسائر بشرية ضخمة - هي التي انتصرت على ألمانيا النازية وأنهت الحرب، والشخص الذي رآه في المحطة هو ليون تروتسكي مؤسس صحيفة برافدًا واحد قادة الفكر الشيوعي وأول قائد لجيش الاتحاد السوفيتي بعد الثورة الشيوعية.
الرسّام صاحب المشهد الثاني هو قائد ألمانيا النازية وأشعل الحرب العالميَّة الثانية عندما احتلّ بولندا عام 1939م بالتعاون مع ستالين مما جعل بريطانيا وفرنسا تعلنان الحرب على ألمانيا، وقُتِل في هذا الغزو ملايين البولنديين، وجُرَّت دولة وراء دولة إلى هذه الحرب حتَّى صارت أكبر ملحمة في التاريخ البشري حتَّى الآن. إنَّه أدولف هتلر.
صاحب المشهد الثالث لم يُعرَف باسمه الحقيقي المذكور بل عُرِف باسم مارشال تيتو حليف الاتحاد السوفيتي سابقًا ورئيس دولة يوغسلافيا التي حَكَمَها بمزيج من الدكتاتورية والحنكة واستطاع أن يُحكم قبضته عليها رغم الاختلاف الكبير في أعراقها وأديانها، ولما مات تيتو عام 1980م لم تلبث الدَّوْلة كثيرًا حتَّى تفككت بسبب شدة الاختلاف بين طوائفها المختلفة.
وأخيرًا في المشهد الرابع ساكن القصر الأول هو فرانز جوزيف امبراطور الدَّوْلة النمساوية المجرية الذي كان كل هؤلاء تحت حُكم دولته، فأما ستالين وتروتسكي فكانا هاربين سياسيّين من دولتهما ومكثا في فيينا مؤقتًا، وتيتو كان يعمل هناك، وأما هتلر فهو نمساوي وفُرَصه الفنيَّة في فيينا أفضل من مدينته ولهذا ذهب هناك يلاحق طموحاته، وأما ساكن القصر الآخر ذو الشخصيَّة النارية فكان فرانز فرديناند ولي عهد الامبراطور، وقُتِل فرانز في السنة التي بعدها - أيّ في عام 1914م- على يد متطرّفين صربيين مما أشعل الحرب العالميَّة الأولى التي كانت آنذاك أكبر حرب في تاريخ البشر قُتِل فيها أكثر من 60 مليون إِنسان، لم يفُقها إلا الحرب العالميَّة الثانية.
وفي فيينا، عام 1913م، سكن هؤلاء متقاربين في منطقة صغيرة مساحتها 3 ونصف كيلومتر مربع ولم يعرفوا بعضهم!