“الحصول على المعلومات من الإنترنت مثل محاولة الحصول على كأس ماء من شلالات نياجرا”، حسب وصف العالِم وكاتب الخيال العلمي آرثر كلارك. صارت المعلومات فائضة لا تحتاج لعناء البحث لكنها تحتاج لمهارة التقاط الحقيقي في بحر الزيف..
قبل عدة سنوات وجدت نفسي مضطراً لإلغاء موضوع نقدمه بالدورات التدريبية لتصميم وكتابة البحث العلمي، وهو البحث عن المصادر والمراجع.. فلم تعد حاجة لهذا الموضوع لأن البحث ميسر بالإنترنت، هكذا توهمنا.. لكن ظهرت مشكلة معقدة جداً! إنها الوصول للمعلومات المناسبة بين آلاف المصادر بالإنترنت والتمييز بينها وتمحيصها في علميتها أو مصداقيتها أو دقتها.. وحتى إذا كانت سليمة علمياً، فما مدى مناسبتها للطلاب والباحثين المبتدئين؟ فقد تكون المعلومة متقدمة وتحتاج لمعرفة مبادئها، وقد تكون معلومة قديمة تم تجديدها..
وإذا كان الباحثون الحاليون يواجهون مشكلة في ذلك، رغم أنهم تأسسوا على مصادر البحث المتخصصة والموثوقة من مجلات علمية محَكَّمة وكتب منهجية ومراجع المكتبة، فكيف سيكون الحال للطلاب والباحثين المبتدئين الذين تنحصر جل مصادر أبحاثهم في الإنترنت؟ لذا أصبح من الضروري أن تتضمن المناهج بالمدارس والكليات ومراكز التدريب البحثية موضوعاً جديداً وهو طريقة البحث عن المصادر بالإنترنت، تُعلِّم مهارات جديدة للبحث والحكم على جودة المعلومات...
منافع البحث في الإنترنت عظيمة من ناحية السرعة والسهولة والكمية، لكن هناك إشكالات يجدها الطلاب والباحثون المبتدئون عبر محركات البحث. ولو حاولنا أن نجمع أهم التحديات التي تواجه الطلاب، فهناك تحديان أساسيان. التحدي الأول يظهر في استخدام مصطلحات فعالة أو مفاتيح الكلمات المناسبة، ومعرفة الرموز التسهيلية في محرك البحث، حيث إن الاختيار غير المناسب للكلمات أو العبارات أو الرموز كثيراً ما يحرف طريق الطالب عن المصادر المناسبة.. وحسب أوسع دراسة استطلاعية شاملة على المدرسين في أمريكا أجراها مركز بيو للأبحاث بالتعاون مع مشروع الكتابة الوطني ومجلس الكليات الأمريكية فإن نحو 38 % من المعلمين أعطوا طلابهم مستوى ضعيفاً في استخدام مصطلحات البحث الفعال.
التحدي الآخر والأكبر هو تقييم دقة ومصداقية المحتوى، حيث أكثر ما ينهمر من شلالات المعلومات هي مصادر غير موثوقة، إذ حسب الدراسة السابقة فإن 40 % فقط من المدرسين يقولون إن لطلابهم قدرة جيدة في تقييم نوعية ودقة المعلومات التي وجدت عبر البحث على الإنترنت. وأما بالنسبة للمعلمين أنفسهم، فإن 5 % فقط يقولون إن المعلومات التي وجدت عبر محركات البحث جديرة بالثقة، أقل بكثير من 28 % من الطلاب الذين يقولون الشيء نفسه. تلك نسبة فادحة تعبر عن انخفاض حاد في الثقة بالمعلومات عبر الإنترنت!
وهناك مشاكل أخرى مثل كثرة الإغراءات التي تُخرج الباحث عن مسار بحثه وتلهيه فيقع الباحث أو الطالب في حالة من الإلهاء وتشتيت الذهن وصرف الانتباه عن القراءة المركزة، مما يولد مشكلة ضعف التركيز وضياع الوقت.. هذه المشاكل هي ما دعا الدراسة المذكورة إلى أن تذكر أنه رغم أن الإنترنت فتح عالماً واسعاً من المعلومات للطلاب اليوم وهي بمعظمها إيجابية للعمل البحثي للطلاب، إلا أن محو الأمية الرقمية للطلاب لم يلحق حتى الآن بالركب. فحسب الدراسة السابقة ثمة 87 % من المعلمين يقولون إن التقنيات الرقمية تقوم بخلق “جيل مشوش بسهولة مع انخفاض التركيز” و64 % يقولون بأن هذه التقنيات اليوم “تقوم بتشتيت أذهان الطلاب أكثر مما تساعدهم أكاديمياً”. كما تتفق أغلبية كبيرة أيضاً مع فكرة أن كمية المعلومات المتاحة على الإنترنت اليوم هي غامرة جداً لمعظم الطلاب (83 %)، وأن التقنيات الرقمية اليوم تثبط الطلاب عن استخدام مجموعة واسعة من المصادر عند إجراء البحوث (71 %).
نظراً لهذه المخاوف، فإنه ليس من المستغرب أن الغالبية العظمى من المعلمين الذين شملهم الاستطلاع (91 %) تؤكد أهمية التركيز على محو الأمية الرقمية وتعليم الطلاب طرق البحث في الإنترنت خاصة كيفية الحكم على جودة المعلومات بحيث يدرج ذلك في المناهج الدراسية لكل مدرسة وفي الدورات التدريبية.
ولأن فكرة المادة جديدة لم تدرج بعد في المناهج ولم يتأسس لها منهج عملي، فمن المهم تأسيس مواضيعه الرئيسية من تجربة المدرسين والباحثين واقتراحاتهم.. إذ يذكر العديد من المعلمين أنهم يقضون بعض الوقت مع طلابهم في التطرق حول كيفية عمل محركات البحث، وكيفية ترتيب درجة الثقة في المعلومات على الإنترنت وكيفية تحسين مهارات البحث حسبما أوضح “مات مكجي” رئيس تحرير “أرض محرك البحث”.
وحسب تجربتي في الإشراف على الدورات التدريبية في البحث العلمي، فإن أول المواضيع التي يجب أن تتضمنها هذه المادة الدراسية هو معرفة الرموز وعلامات الترقيم لكل محرك بحث، خاصة جوجل حيث هناك رموز وخطوات توضيحية تسهل للباحث الوصول للمعلومات الموثوقة والبحوث والتقارير الجاهزة، وتجنبه الوقوع في مواقع ليست علمية وغير موثوقية، وهي موجودة بوضوح في محركات البحث، ويجب الاطلاع والتدرب عليها. بعد ذلك توضع العبارات المناسبة التي تعبر عن موضوع البحث متضمنة المصطلحات الأساسية ومفاتيح الكلمات..
بعد الوصول إلى المواقع ينبغي معرفة طريقة الاختيار المناسب بين هذه المواقع من خلال تقييم درجة الثقة بمعلومات المحتوى. هل هي من أبحاث محَكَّمة علمياً ودراسات متخصصة وإحصاءات من جهات بحثية؟ وإذا كانت غير ذلك فهل المصدر يذكر المرجع الذي استقى منه هذه المعلومات؟ وهل هو متخصص؟ ما هو تاريخ صدور هذه المعلومات.. قديمة أم حديثة؟ هل اللغة المستخدمة لغة علمية موضوعية أم إنشائية ذاتية.. حقائق علمية أم آراء شخصية؟ نتائج أم استنتاجات؟ هل هي استقرائية (أدلة مادية)، أم استنباطية (أدلة عقلية)؟ درجة الثقة ترتفع مع الدراسات والإحصاءات المتخصصة وتنخفض مع المواقع الصحفية وتهبط كثيراً مع المواقع الاجتماعية..
مهارات التركيز: القراءة المركزة والقراءة المسحية السريعة، والتقاط المعلومة المطلوبة، تعد من المواضيع المهمة في تلك المادة. وكذلك مهارة اختيار الأهم من المهم وإدارة الوقت وتجنب عوامل الإلهاء والتشتيت المخرجة عن موضوع البحث، فالإنترنت يزخر بإجابات مغرية لكنها غير ضرورية للبحث.. “كان لدينا الكثير من الأسئلة بلا أجوبة. الآن، مع الإنترنت هناك الكثير من الأجوبة لم نفكر في طرح أسئلتها”. (بيتر يستينوف)