قبل أقل من خمس سنوات تقريبا كانت طالبات الاحتياجات الخاصة بجامعة الملك سعود لا يجدن سوى سقف أحد السلالم السفلية بكلية التربية ليكون مقرا لتواجدهن ولتجاذب أحاديثهن، بينما لا يتوفر لهن من خدمات تقدمها الجامعة الا مكتب صغير تتكدس به موظفات معظمهن غير متخصص يتابعن
طابعات برايل المتهالكة ونصفها متعطل ولا توجد لها صيانة دورية.. وكن يتناوبن على استخدامها وعلى استحياء كن يتسللن إلى فصولهن الدراسية بشعور انعزالي بين زميلاتهن العاديات ودون أي احتكاك يذكر.. هذه حالة انعزالية كانت تمثل طالبات الاحتياجات الخاصة بجامعة الملك سعود.. وكان بالإمكان أن تبقى الأمور على ما كانت عليه كما هي الحال في جميع الجامعات السعودية بل هي أسوأ مما هي عليه في جامعة الملك سعود.. هذا هو المشهد قبل أقل من خمس سنوات.. ولكن..
ولكن وفي ظل الظروف التطويرية التي كانت تعيشها الجامعة في ذلك الحين بدأت الدكتورة سحر الخشرمي تبحث عن مخارج وحلول لهذه الأزمة التي كانت تعيشها طالبات الاحتياجات الخاصة بجامعة الملك سعود.. وكانت البداية هي التفكير في وضع مشروع تطوير خدمات الاحتياجات الخاصة بجامعة الملك سعود.. وهذا ما حدث فعلا ورفعت المشروع لإدارة الجامعة، فوافقت مباشرة على مشروع النقلة النوعية لخدمات طالبات الاحتياجات الخاصة والذي كان مبنيا على مرجعيات لجامعات عالمية وعلى نتائج بحوث ودراسات تطبيقية.. وكان التحدي الأول هو البحث عن مقر جديد وفق رؤية المشروع الطموحة بنقل الطالبات من السلالم المجهولة إلى واجهة الجامعة وصدارتها..
والحقيقة المرة أن تحديات كبيرة واجهت صاحبة المشروع ابتداء من الطالبات أنفسهن اللائي آثرن أن يبقين في المساحة المظلمة التي لا يعرفها أحد تقريبا، مرورا بالاستحواذ على أحد مطاعم الجامعة من عمادة شئون الطلاب الذي تم الاستغناء عنه دون رغبة ومرورا أكثر بترجيات عديدة لإدارات عديدة بالجامعة مع الوقوف شبه اليومي مع العمالة المنفذة للمشروع حتى تحقق تنفيذ مركز خدمات الاحتياجات الخاصة للطالبات على أفضل مستوى متوقع وبإرادة طموحة ليكون مركزا رياديا ليس فقط في الجامعة ولكن في كل الجامعات السعودية والعربية.. والمركز ليس مجرد مبنى ولكنه خدمات متكاملة، وليس معنيا فقط بالطالبات الكفيفات، ولكنه متوجها لكافة فئات الإعاقة بتدرجاتها وتباينها..
وقد تكون المركز من عدد من الوحدات المتخصصة تقدم حزمة من الخدمات من أهمها: خدمات بصرية، خدمات سمعية، خدمات ضعاف البصر، خدمات حاسوبية (معمل حاسب)، خدمات إرشاد اجتماعي، خدمات إرشاد نفسي، خدمات للإعاقات الحركية، خدمات صعوبات التعلم، مكتبة سمعية، مكتبة برايل، إضافة إلى خدمات نقل داخل الجامعة بتوفير سيارتين جولف لنقل طالبات وأستاذات الاحتياجات الخاصة على مدار اليوم الدراسي من البوابات إلى مقر المركز ثم بين الفصول الدراسية..
ثم جاءت الخطوة التالية في التوعية والتثقيف بكيفية التعامل مع طالبات وطلاب الاحتياجات الخاصة في الجامعة واستطاع المركز بالتعاون مع طالبات الدراسات العليا بقسم التربية الخاصة وبمراجعة أساتذة متخصصين وبإشراف من المشرفة على المركز الدكتورة سحر بإعداد حوالي عشرين كتيبا تعريفيا وتثقيفيا وتوعويا عن خدمات المركز وعن كيفية التعامل مع طلاب الاحتياجات الخاصة في الجامعة.. كما بادر المركز بالتعاون مع صحيفة رسالة الجامعة في إصدار صفحة أسبوعية لمناقشة قضايا الإعاقة وهموم طالبات الاحتياجات الخاصة، وتلاها إصدار نسخة من رسالة الجامعة مطبوعة بطريقة برايل توزع على طلاب وطالبات الجامعة وخارج الجامعة.
كما لم يكن للمركز أن يحقق مكانته ،ويكتسب الشرعية دون التنسيق مع كافة إدارات الجامعة ذات العلاقة ابتداء من القبول والتسجيل وانتهاء بمكتبة الجامعة وتحديد مهمات وأدوار كل جهة من الجهات حتى يمكن أن يحصل طالبات الاحتياجات الخاصة على حقوقهن كاملة من الجامعة.. وبعد ذلك أصبح مركز خدمات الاحتياجات الخاصة للطالبات مزارا مهما ضمن مزارات ضيوف الجامعة، كما نجح المركز أن يكون بيتا لطالبات الاحتياجات الخاصة وحققن من خلالها تميزا أكاديميا وثقافيا وإعلاميا..
ولكون المركز رياديا في الجامعة وأصبح بيت خبرة فقد انفتح المركز على باقي الجامعات السعودية وتوافد الكثير لزيارة المركز والاستفادة من الخبرة النوعية والتميز الذي اكتسبه المركز خلال سنوات قليلة.. وفود أساتذة من جامعات أمريكية وأوروبية يشهدون بتميز المركز وكونه أفضل من المراكز التي تحتويها بعض جامعاتهم كما سجلوا ذلك في سجلات الزيارات للمركز.. وكذلك وفود من جامعات خليجية وسعودية تحاول أن تتعرف على نوع الخدمات التي يقدمها المركز..
ويظل من أهم معالم التميز بالمركز وحدة الدعم التقني لطالبات الاحتياجات الخاصة وهي عبارة عن مجموعة تقنيات حديثة تم توفيرها بالمركز في كافة أنواع الإعاقات السمعية والبصرية ولضعاف البصر وغير ذلك.. ويكفي أن نشير إلى الطالبة روان المصابة بشلل رباعي وغير قادرة على الكلام، وسخر الله لها مركز خدمات الاحتياجات الخاصة حيث بادرت المشرفة على المركز في الحصول على قبول لها بالجامعة وقبلت وطالبت الجامعة أن توفر لها جهازا معقدا على مستوى تقني أشبه بالجهاز الذي يعمل عليه ستيفن هوكينج في جامعة كامبردج، وتمكنت الطالبة روان أن تتواصل فيه مع الآخرين عن طريق توجيه بصرها إلى حروف على شاشة كمبيوتر أمامها وتتحول بفضل التقنية العصرية إلى كلمات منطوقة تعبر عما بداخلها من جمل وعبارات.. وساعدها هذا الجهاز على التواصل مع أستاذاتها وزميلاتها وأسرتها.. هل تصدقون أن الطالبة روان تخرجت من جامعة الملك سعود أو على وشك التخرج..؟
لم تكتف الدكتورة سحر بالمركز وتنظيماته الداخلية، بل تعدت ذلك إلى محاولة التأثير على قرارات مؤسسات التعليم العالي، فرفعت مشروع تطوير خدمات الاحتياجات الخاصة لوزارة التعليم العالي.. كما تقدمت بتنظيم ورشة عمل لجامعة الملك سعود لوضع لائحة تنفيذية لخدمات الاحتياجات الخاصة في الجامعات السعودية ومؤسسات التعليم العالي في ضوء الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة التي وضعتها هيئة الأمم المتحدة ووقعت عليها المملكة ومعظم الدول العربية.. ولكن لم تتحرك الأمور لأسباب مجهولة.. وهذا ما حدا بالدكتورة سحر مستثمرة كونها عضوا في لجنة الاحتياجات الخاصة بدول مجلس التعاون الخليجي أن تقترح إعداد هذه الورشة من خلال المجلس وتقترح أن تستضيفها جامعة الملك سعود.. وهـذا ما حدث فعلا فقد تمت الورشة ومن المنتظر أن تفرز هذه الورشة اللائحة التنفيذية لقانون تسهيلات الوصول لخدمات الاحتياجات الخاصة في الجامعات الخليجية والذي يثبت حقوق وواجبات طلاب الاحتياجات الخاصة في الجامعات ويجعل الجامعات الخليجية مواكبة للتقدم الحاصل في الدول المتقدمة لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة..
وربما ما يميز هذا المشروع هو حرص القائمين عليه وفي مقدمتهم المشرفة على المركز على تقديم خدمات المركز بعيدا عن بيروقراطية الجامعة، وهذه نماذج فقط من جهود المشرفة من أجل أن تنقل المركز إلى أفضل حالة حتى لو جاء ذلك على حساب وقتها وجهدها والصرف الذاتي في أكثر الأحيان:
1 - كان عمل الدكتورة سحر المشرفة على المركز عملا تطوعيا مائة بالمئة، فلم تكن تتقاضى هللة واحدة على مدار الخمس سنوات الماضية من الجامعة.. ففي حين غيرها من الرجال والنساء يتقاضين مكافآت للأعمال الإدارية وأحيانا تكون مغرية ومجزية مما يجعل التشبث بالمناصب قويا لدى شاغليها، إلا أن الدكتورة لم تطالب بأي مكافأة نظير جهودها التأسيسيية والتطويرية والإشرافية على المركز كما أن الجامعة لم تعرض.
2 - غطت المشرفة تكاليف مهمة من حسابها الشخصي من أجل أن ينتظم العمل بالمركز، فقد كانت تعطي مرتبات لسائقتين بالمركز لشهور عديدة، ثم انضمت الدكتورة الجازي الشبيكي عميدة المركز في دعم رواتب السائقات من حسابها الشخصي كذلك.. وهناك أوجه صرف كثيرة على حسابها الشخصي مثل أن تتكفل بزيارة إحدى الموظفات لحضور معرض تقني عن الاحتياجات الخاصة خارج المملكة لأهمية حضور هذه الموظفة هذا المعرض وانعكاسه على تطوير خدمات المركز.
3 - كانت المشرفة تحضر معارض خارج المملكة وعلى حسابها الخاص بعيدا عن بيروقراطية المؤتمرات من أجل أن تتواصل مع شركات التقنية للتعرف على أحدث التقنيات التي تخدم طالبات الإعاقة.. وليس جهاز الطالبة روان إلا نتيجة أكثر من زيارة لتحقيق هذا الهدف..
4 - عدم تقديم ميزانية للمركز خلال الثلاث سنوات الماضية أدى إلى تحمل المشرفة ميزانية المركز عدا ميزانية الموظفات من أجل أن ينتظم عمل المركز بشكل لا يعيق أي خدمة من خدماته الكثيرة..
5 - استثمار الوقت والجهد الكبير الذي وضعته الدكتورة سحر في هذا المركز ودوامها المستمر وتحويله إلى مركز أقل ما يوصف به أنه مركز من القطاع الخاص وليس من القطاعات الحكومية هو السبب الحقيقي وراء النجاح الذي حققه المركز..
أن النجاح الذي حققه المركز حقق ريادة لجامعة الملك سعود بين الجامعات الخليجية والعربية، وقد أفسح المجال إلى مبادرة جامعات سعودية وخليجية في تأسيس مراكز خدمات احتياجات خاصة للطلاب والطالبات.. ولم يكن المركز لينجح بهذه الاستثنائية لولا فضل الله تعالى وتوفيقه ثم إصرار وحماس وإرادة المشرفة على المركز وجهدها التطوعي، وجهود زميلاتها موظفات المركز.. وهذا النجاح الاستثنائي الذي عاشته الجامعة خلال الخمس سنوات الماضية يعكس إرادة الأشخاص الذين يضحون بكل شيء من أجل خدمة فئة غالية في مجتمعنا..