لاشك أن المتغيرات الحياتية المتدفقة وعلى نحو تناسلي لا يتوقف يفترض أن تؤثرعلى ذهنية الفقيه فتحدوه لتحوير الرؤية وتفتح له آفاقاً حديثة من خلال تجربة محددة أومن خلال وضع تأملي معين يدفع باتجاه لون من المواكبة الفقهية المتطورة وهذا أمر ليس ثمة اختلاف على ضرورته،
لكن الملاحظ هنا هو أن هناك كثيراً من الأطروحات التي تدعو للاجتهاد تنطلق في دعوتها من عدم فهم للفرق بين الشريعة والفقه فتتعاطى مع أحدهما باعتباره ممثلاً للآخر ولذا فهي لا تجد غضاضة بأن تصف الشريعة بالجمود وأنها بمنظومتها وبكافة مكوناتها غير قادرة على استيعاب المتغير الثقافي ومعالجة الإفرازات الناجمة عن تحول حركية الزمن ونتيجة لهذا الفهم المغلوط تأتي الدعوة للتجديد ذات طابع عام ودون أن توضح ما هي آليات التجديد الفقهي وما ضوابط الاجتهاد وماحدوده وتقنياته العامة وما الأدوات المشروطة للمجتهد وما المقاييس المعيارية التي يفترض الانطلاق منها؟!.
إن التجديد ضرورة لا مناص من مباشرتها لكن ليس بطريقة فوضوية وكما أن الفقيه القانوني ليس بمكنته التوفر على أي مكتسب معرفي جديد إلابعد التعاطي مع مكتسبات الماضي وإنجازاتها فكذلك الفقيه الشرعي لا يمكن أن ينطلق في معالجة الآني إلا بعد دربة وخبرة وخلفية فقهية واسعة تتيح التحرك وبأكبر قدر ممكن من الثقة وإلا فستكتسي ممارساته بطابع الفوضوية والعشوائية والذاتية وطغيان الأبعاد الوجدانية ولاريب أن توجها من هذا النمط هو في حقيقته لا يسير في الاتجاه الصحيح ولا لمصلحة الإنسان لأنه يفرز الكثير من المخاوف ويفسح المجال لضروب من المتاعب لتتحرك في حياة البشردون أن يمنحهم ما يتسق وتركيبة الأنسنة وجبلة التكوين الفطري.
إن كثيراً من الدعوات للاجتهاد هي عند التمعن لا تتطلع إلى خلق لون من التجديد والنظرالذي يتجاوز خطيئة تجميد حركية المقاصد في الاستنباط فيواكب الراهن ويتفاعل مع الزمني ويوجه حراكه ويخطو خطوات تقعيدية في هذا الاتجاه بقدرما تتطلع إلى الآلية الأنجع لاستبعاد التشريع ذاته عن مراكز التأثير وصياغة التوجه الكلي. تلك الذهنية استقرفي خلدها أن الدين كنظام عقدي وتشريعي لا ينطوي على قيمة تجديدية بوصفه ذا ملمح ثبوتي لا يتغير ولا يتحول وبالتالي فهو أضيق من حركة الواقع وليس بمقدوره الإجابة على أسئلته إنه لا ينسجم ومعطيات العصر ولا يتناغم مع روحه المتجددة مما يستدعي ضرورة العمل على تحييد دوره وحصره في دوائر محددة لا تتسع إلا بقدر ما تتسع له الأخلاقيات القائمة!.
الغائب الأكبر عن تلك الذهنية هو أن الشريعة في بنيتها المتكاملة ولمن يعي عمقها المقاصدي ليست مشدودة إلى أفق بعيد وناء عن مفاصل الحياة الحسية إذ لو كانت كذلك لفقدت جزءاً كبير من فاعليتها وحيويتها المتحركة ولما كان بمقدورها استيعاب الصيروة المطردة ومقتضى تحولات الجغرافيا. والتشريع كبنية متكاملة كما أنه ينطوي على عناصر ثبوتية هو أيضاً يختزن في داخله حيوية مكثفة للتغيير ونسبة عالية من المرونة والقابلية للتحول هذه الحقيقة البسيطة يعيها كل من يملك الأدوات لاستنطاق النص وقراءته واكتشاف ما يختزنه من أسرار.
إن جمود بعض الدوائر الفقهية ووقوعها في أسر حالة معينة ضاغطة ليس مبرراً لتحميل الشريعة التبعة فالفقه شيء والشريعة شيء آخر, ومقتضيات العلمية تفرض التفريق بين قدسية التنزيل وبشرية التأويل, والآراء الاجتهادية في أي مجال ليست نهائية ومغلقة بل قابلة للتداول ولا تمنع المصير إلى توجه مختلف أورأي مغاير مهما علت رتبة متبنيها من القدرة والتمكن والمركز الروحي.