تساهم الأسبوعيات الثقافية في خلق أمسيات وندوات ثقافية تخاطب الفكر وتستنهض العقل للاستنارة لطرح الأفكار والرؤى لاستشراف المستقبل الخادم للحراك الثقافي، بكافة اتجاهاته وتوجهاته التي ترقى بالمجتمع رقيا ثقافيا منجزا. الذي هو مقصد الإنسان الباحث عن ذاته بعقلانية وبصيرة مبصرة، عقلا يفكر بتدبر شؤونه وشؤون مجتمعه.
يصنع منه مجتمعا سويا مساهما في خلق وسائل نافعة ورافعة مهيأة لارتياد أفاق ثقافية وسياسية واقتصادية، عائدة بالنفع الجزل في معطيات علمية وثقافية في مجمل علومها وثقافتها وفنونها.. والمثل يقول: «إذا أردت أن تنظر لأمة فأنظر لثقافتها» واحسب أن في هذه الصالونات الثقافية التي شقت طريقها وأخذت بالنمو وما ينتج عنها من محاصيل ثقافية، قد شكلت زرع نواة ثقافية مبشرة بنهضة ثقافية واعية وفق مجهودات فردية. تكاد أن تتجاوز بفعالياتها أندية أدبية موسومة بمواسم معينة، ناهيك عما يثار حيالها من مناكفات وتدخلات خارجية في محاولة إفساد توجهاتها الثقافية... لذلك خطفت هذه الأمسيات الثقافية الفائقة العذوبة المكان البراح دون ضجيج وتدخلات ليست بذات أهمية، فتنوعت بتنوع مسمياتها التي تعقد في كل أسبوع لليلة واحدة. يحضرها مجاميع غفيرة من المهتمين بالشأن الثقافي، الذين هم من روادها ومريديها.
ولعل أسبوعية الدكتور عبدالمحسن القحطاني، الثقافية. بجدة، تعد الأسبوعية الأكثر حضورا والأكثر اهتماما بالشأن الثقافي. حيث تنفرد بميزة جميلة، انتقاء الأشخاص الذين تستدعيهم الأسبوعية من دكاترة ومفكرين وكتاب يساهمون بوجهات نظرهم بمثل (محطات في حياتي) لمعالي الدكتور عبدالله نصيف عن تجاربه بالحياة بشكل مختصر، وهي تجربة مهمة، لما لها من ثراء معرفي ما بين الجامعة والشورى..
عن التعليم قال: «تجربة التعليم تجربة مهمة، ساعدت على إدراك أهمية هذه الحياة. وأننا نربي جيلا من الشباب، نتخيل أنهم سيكونون في القريب العاجل رجالا عاملين في المجتمع، ولذلك كان التركيز عليهم مهما جدا، وبالتجربة، إذا وجد الطالب الاهتمام من الأستاذ ومن الجامعة، يتغير سلوكه ويتقدم إلى الأمام بطريقة فعالة، أما إذا ترك للصدفة، وترك لكذا، فسوف يعاني حتى يتخرج من الجامعة، بدون هدف واضح. وبدون مقدرة مهمة، لأن التعليم عندنا، كما تعلمون، غير تطبيقي، ونشتكي دائما من أن التعليم يخرج شبابا عندهم الشيء البسيط من المعلومات الأساسية في التخصص، لكن كونه يخرج إلى دولاب الحياة. ويستطيع أن يعمل. يحتاج إلى سنين، حتى يتدرب في كل التخصصات حتى الهندسية، ويمكن أن يستثني الطب شيئا من ذلك. وأقول: متى نرى تعليما تطبيقيا إيجابيا...
وتحدث الدكتور نصيف، عن الشورى قائلا.. بالنسبة للشورى، أيضا يساء فهمها في المجتمع، لأننا عينا أناسا، بينما المفروض أن يكون بالانتخاب، وكنا دائما مع الوفود الخارجية، وبخاصة رؤساء الدول.. يقولون إن نظامنا. وهو نظام الشورى. هو نظام مواز للبرلمان، والمسلمون ليس عندهم مانع للعمل بالنظام البرلماني، ولكن لا نهمل الشورى، لأن مرجعيتها إلى الله سبحانه وتعالى، ولأوامره ونواهيه، وللقرآن، والسنة، ولذلك لا ينبغي أن نقلل من أهمية الشورى، أما من ناحية التنظيم الداخلي والتصويت واتخاذ القرارات ودراسة الأنظمة، فكانت تتم حسب المتبع في العالم كله، كان أي نظام يأتي، أو اتفاقية تستعرض من الناحية الشرعية، من ناحية المقارنة مع دول متقدمة، من ناحية المقارنة مع الدول الصديقة، ونختار الأفضل قدر المستطاع، وطبعا كان لعشرة أعضاء الحق في اقتراح نظام جديد، أو تعديل نظام قائم، الآن تحسن الوضع شيئا ما، وزاد العدد، ولكن يمكن التحسين أكثر.. وقال عن دخول العنصر النسائي لمجلس الشورى.. صرحت مرة في جريدة أمريكية أن العنصر النسائي في مجلس الشورى مسألة وقت، فلا تستعجلوا، وسيأتي الوقت، وفعلا الآن أمامنا واقع، سيكون للنساء دور كبير، وكان النقاش يقول: ليس لها ولاية، المرأة ليس لها ولاية، وقلنا، لا يحق لها الولاية حينما تكون رئيسة دولة أو رئيسة وزراء، أما وزيرة، أو أي عمل آخر، ليس ولاية، والشورى عبارة عن رأي مشترك، ونقاش مشترك، ومشاركتها فيه سيكون له أثر كبير، لا نريد أن نقلد، دعونا من موضوع نهضة المرأة، وإعطائها حقها الذي أصبح ورقة مزايدة عند البعض، ونحن ليس لدينا ورقة مزايدة، بإمكاننا نثبت من الإسلام، قصص الصحابيات، أمهات المؤمنين ودورهن في المجتمع وتأثيرهن في المجتمع، والحديث الذي يتم في المسجد النبوي والنساء يشتركن فيه. ولذلك لا نريد المزايدة، فلدينا، والحمد الله. تراث زاد كبير.
وعن الحوار الوطني قال: الملك عبدالله -حفظه الله- حينما كان وليا للعهد، قال: أرى أن بعض العلماء لدينا لا يتحدثون مع بعضهم البعض، وكل واحد متشبث برأيه، فما الرأي في إقامة مركز للحوار؟.. وها هو الحوار الوطني يقام في كل عام وفي كل منطقة من مناطق المملكة.
وفي ليلة مماثلة من ليالي الأسبوعية كان المحاضر هو المفكر الشيخ محمد الدحيم. وعنوان المحاضرة كما اختارها راعي الأمسية «التجديد الثقافي» حيث قال الشيخ الدحيم..
تجديد الثقافة هو تجديد للفكر. ودعوني أنتقل بكم إلى تراكمية. أو معادلة مهمة، الفكر ينتج خطابا، والخطاب ينتج ممارسة.. إذن ما الذي ينتج الفكر؟ الذي ينتج الفكر هو الوعي، إذن علينا أن نصل إلى حالة الوعي، هذا الوعي ليس بمعنى صامت.. أو بمعنى صنمي، هذا المعنى، معنى الوعي، معنى متحول، ومتجدد، معنى يمكن تفكيكه وإعادة تركيبه، حتى يتشكل هذا الوعي، الوعي حالة من التشكل، فإذا تشكل بطريقة ناضجة، وبطريقة جميلة، وبطريقة منسجمة، يمكن أن نخلق من خلاله حالة فكر، والمفكرون في الأمم كلها، وفي الحضارات كلها، هم قلة. لماذا!؟ لأن المفكر يعمل على إنتاج الأفكار، ويعمل في حقول محدودة، ليس نبيا، ولا رسولا، ولا مبشرا، وإنما هو يقوم بخلق الفكرة، ثم يأتي -بعد ذلك- من يقوم بإدارة الأفكار، بتنوير الفكرة، بتطويرها ونشرها، بتعليمها، بوضع المناهج لها، وهذا هو دور المثقف، فالمثقف يعمل بهذه الأدوار الكبيرة جدا، والواسعة، والانتشارية، والشمولية أحيانا، بعد ذلك يأتي دور المجتمع بالممارسة، فما بالكم بمجتمع لا يجد من مثقفيه شيئا من هذه الأدوار، ولا شيئا من تلك المناهج، ولا شيئا من تلك الانفتاحيات العقلية، والتحولات النفسية، والاستقرار النفسية أيضا، في الوقت نفسه، إن هذا المجتمع سوف يجد نفسه في حالة من التأزمية، التي ينتجها المثقف نفسه.. من هنا الحقول التي نعمل فيها، التي من خلالها سوف نؤثر في هذه المجتمعات، ينبغي أن تكون حقولا صالحة.. علينا أن نأتي إلى هذه الحقول، ونغير فيها، ونبدل، ونطور في هذه الحقول، وألا يجتر بعضنا بعضا، ونصبح نعيد إنتاج أنفسنا في كل مناسبة، وفي كل أزمة، فقط تكون مهمتنا هي إعادة الإنتاج، إذن ربما يكون هناك جدل واسع وكبير.. من أين يبدأ الإصلاح الثقافي؟ هذا الجدل ليس جدلا سلبيا، ولا جدلا بيزنطيا، إنه جدل فاعل، وحراك ناضج، ولا ينبغي أن يتحول إلى حالة من العداء، وإنما حالة من التنوعية، التي يفيد منها كل إنسان... إن الوعي هو الأساس الذي يبنى عليه الفكر؛ لأن الوعي الصحيح سينتج فكرا صحيحا، والفكر الصحيح سينتج خطابا ثقافيا صحيحا، والخطاب الثقافي الصحيح، سينتج لدينا سلوكا أيضا صحيحا، وقال: فإن لدينا إرثا ثقافيا ضخما، ولا أحد يقول: إن كل إرثنا الثقافي كان جيدا، وكان جميلا، وكان ناصعا، بل كان إرثا متأثرا، بقدر ما كان مؤثرا، فقد ارتهن كثير من إرثنا الثقافي إلى التأرخة، وإلى السياسة، وإلى مصالح. وإلتقاطعات مذهبية وطائفية، وكل ذلك موجود فيه، وفي القوت نفسه، كان في إرثنا الثقافي أشياء جميلة، تحتاج إلى أن نطورها، وأن نحولها إلى نظريات، وأن نحولها إلى شكل منظومي، نحن عندنا مهارة الاجتزاء والاقتطاع، والقص واللصق، لكن التفكير بعقل المنظومة..... الخ.
خلاصة القول، أنني رأيت في هاتين المحاضرين أهمية بالغة في الاستفادة منها التي ألقت ضوءا ما بين التعليم والشورى، للدكتور عبدالله نصيف.. وللشيخ المفكر محمد الدحيم. فيما تناوله من تسليط الضوء على تجديد الفكر ومعطياته الثقافية التي تعود بالنفع الكبير على المجتمع. فبمثل هذه الأطروحات الفكرية المستنيرة تبشر بظاهرة ثقافية عامة.. قائمة وقادمة نحو الأفضل لا محالة!!