يستبعد بعض المتتبعين للشأن المحلي أن يعلن اليوم الرباعي الراعي للحوار اسم رئيس الحكومة الجديد الذي سيخلف حكومة الترويكا بعد أن قدم علي العريض استقالة حكومته منذ 23 أكتوبر الماضي، مثلما نصت على ذلك بنود خارطة الطريق التي اقترحها الرباعي، وأمضت عليها الأحزاب السياسية المشاركة في الحوار، وأولها حركة النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم.
ويعزى تشكيك المحللين السياسيين في توصل الفرقاء إلى التوافق بشأن الشخصية الوطنية التي سترأس حكومة الكفاءات المستقلة إلى عوامل عدة، تبدو منطقية جداً، باعتبار استنادها إلى معطيات واقعية. فالنقاشات الحادة التي تسيطر على أعمال الحوار الوطني، وعدم رضا هذا الشق بالأسماء التي يطرحها الشق الآخر، وإطلاق الشائعات بخصوص تراجع إحدى الشخصيات عن قبولها المنصب، وطرح مسألة عائق التقدم في السن سبباً لتحييد بعض المرشحين.. كلها مؤشرات تعمق شكوك الملاحظين في إمكانية الإعلان عن اسم واحد لشخصية واحدة تم التوافق بشأنها لترؤس الحكومة الجديدة.
فبعد أيام من المفاوضات التي أخذت الكثير من الجهد والوقت من المنظمات الأربع الراعية للحوار، ومن الأحزاب المشاركة، ووفقاً إلى بعض التسريبات المقصودة، يتراءى مشهد تواصل الخصام بين طرفي الصراع، بعد أن كانت حدته قد خفتت قليلاً من جراء الصدمة التي خلفتها الأحداث الإرهابية الأخيرة لدى الأطراف المشاركة، وجعلتها تتحد لفترة قصيرة جداً تحت مظلة الوطن الواحد.
وما من شك أن بعض الأحزاب في السلطة وخارجها لم تعد تستنكف من عقد اجتماعات داخلية لإصدار مواقف موحدة حتى لا تنخرم من الداخل أو ربما تنقلب عليها قواعدها الشابة التي صارت لا ترتهن إلى سلوكيات الكبار من قادتها.
اجتماعات الأحزاب أفضت إلى تقوية جدار الصد لديها، فهي ترفض كل ما يقترحه الطرف الآخر؛ لأنها ترى في كل موقف له سعياً محموماً لبسط نفوذه وتحقيق نصر سياسي حزبي ضيق، وهي بذلك تقيس على قدر مناوراتها المكشوفة، ملتحقة بذلك بمن تدعي أنه يعمل على تكريس أحلامه بتأبيد السلطة.
وفي هذا السياق، تبرز اللقاءات المتتالية التي عقدها شيخا السياسة التونسية الباجي قائد السبسي رئيس حركة «نداء تونس» المعارضة، وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الحاكمة، وهي لقاءات لم تعد تثير انتباه الرأي العام لاعتبارات عدة، لعل أهمها أن الرجلين لم يخرجا إلى اليوم باتفاق واحد يؤكد نيتهما التحالف مستقبلاً أو تكوين جبهة انتخابية واحدة تضمن لكل واحد الفوز بفضل أنصار الآخر.
يلتقي الشيخان، ويتحدثان طويلاً، ولا يخرجان بتوافق يروي عطش التونسيين إلى انتهاء الأزمة وهدوء الأحوال، وكأنما الزعيمان لا يستطيعان اتخاذ مواقف تلزم حزبيهما، أو كأنهما لا يتحدثان عن الوضع الحالي عن الحوار الوطني وعن الرئيس المقترح للحكومة الجديدة.. فلا تزال حركة النهضة متشبثة بعدم ترشيحها أي شخصية، وكذلك الشأن بالنسبة لنداء تونس، إلا أن الكبيرَين يميلان إلى اسمين مختلفين، ولا يعارضان توليهما السلطة، بما يعني أن الخلاف بين الحركتين لا يزال على أشده، ومن يدعي أن المرحلة المقبلة ستقتصر على الاستقطاب الثنائي إنما هو خاطئ وجاهل بثنايا السياسة المحلية وتشعباتها.
وبقدر اختلاف وجهات نظر الفرقاء السياسيين في الحوار الوطني حول أبسط القضايا المطروحة بقدر اتفاقهم على رفض التوصيف الذي أصبغه الخبير في القانون الدستوري قيس سعيد على حوارهم، الذي شكك في نجاحه حتى قبل انطلاقه.
قيس سعيد الذي لا يتوانى عن الإصداع برأيه الحر قال إن «كاستينغ رئاسة الحكومة واختيار الرئيس والدور ثمن النهائي واختيار الأسماء إلى النهائي، أو بالأحرى اختيار اسمين، هو شبيه بمسابقة (ستار أكاديمي) اللبنانية». وكان هذا التصريح الساخر قد أغضب طرفي النزاع الذين أرجعوا سبب تهجم أستاذ القانون الدستوري عليهم إلى رفضهم ترشيحه لمعارضته الحوار الوطني بصفة مبدئية، إلا أن قيس سعيد كان قد صرح قبل رفضه من طرف الفرقاء السياسيين برفضه ترشيحهم له؛ لأن المنصب الحكومي كما هو اليوم لا يروق له بالنظر إلى الوضع العام للبلاد ورزمة العمل التي تنتظر الرئيس الجديد للحكومة الذي لا يمكن أن يستمر في منصبه أكثر من أشهر قليلة، لن تمكنه من تنفيذ أي برنامج إصلاحي يرنو إليه.
وكان أحد المحللين قد أثار غضب المشاركين في الحوار الوطني عندما ذكّرهم بمن قال إنه «حمار وطني»، خاصة أن قادة الأحزاب السياسية تدخل قاعة الاجتماعات وهي تشحذ سكاكينها لمواجهة العدو، لا لتقديم تنازلات تساهم في إعادة الثقة مع خصومها واستدامتها لاستكمال بناء الركن الديمقراطي في الدولة التونسية، وتجنب الهنات السابقة بما يبعد شبح الفرقة والفوضى عن المجتمع الواحد.
ولئن عاد التونسيون إلى متابعة حلقات مسلسل الحوار الوطني، بعد أن اتجهت أنظارهم إلى العمليات الإرهابية الأخيرة، فإن الرأي العام المحلي لا يزال على موقفه الرافض للمناورات السياسية وتلاعب النخبة بالمصلحة العليا للوطن، خاصة على ضوء تخفيض الوكالة الدولية «فيتش» للتصنيف الائتماني لتصنيف تونس درجتين، مع إشارة الوكالة الصريحة إلى إمكانية مزيد من التخفيض بسبب ما وصفته بحالة الاضطراب السياسي وأثره على القطاع الاقتصادي المحلي.