* كان يحدثني والأسى يعتصرُ كلماتِه فلم أكدْ أفقه مما قاله شيئاً. ثم قلت له بعد أن استعاد هدوءَه: لِمَ كل هذا الأسى؟ ولِمَ لمْ تتخذ بادئ الرأيَ الحيطةَ والحذر في التعامل مع مخلوق كهذا لا تعرف عنه الكثير، ناهيك أن تثق به، قبل أن تسلمه زمامَ مالك استجابةً لإعلان في صحيفة أو على قارعة طريق؟!
فقال وصوته يحمل بقايا من رذاذ الأسى: وما أدراني أن ذلك الرجل كان يظهر لي نوايا الخير، ويعدني بالمنّ والسلوى، وهو في الحقيقة أفّاق أشِر يضمر لي المكرَ والأذى!
* * *
- قلت: كيف؟ فقال:
- زعم ذلك الرجل فيما زعم أن لديه القدرةَ والوسيلةَ لاستثمار الأموال وتوظيفها في مشروعات عقارية رابحة، فصدقته غير مدرك أنني بذلك قد وضعت حبل الخداع في رقبتي (ثقةً به)، وكان من أمري وأمره ما كان! هو الآن في السجن حتى يسدد التزاماته لي وسواي من المخدوعين، وأنا أتضور لوعةً وحسرةً وشقاءً لضياع مالي في مغامرة فاشلة، كنت أحسب أنها ستحقق لي ثروة بأقصر الطرق وأيسرها!
* * *
* ويردف محدثي قائلاً:
* اكتشفنا ذات يوم أنا ومن معي من الغافلين أو المستَغْفلين، أن المستثمر المزعوم كان (يخطط) لإنهاء الشراكة بيننا (من طرف واحد)، وحين طالبناه أن يعيد لنا رؤوس أموالنا، صار يَعِدُ ويكذب، مماطلةً وزيفاً، ثم يتوارى عن الأنظار فترةً ليعود بعدها مردِّداً أعذار الأمس، مما حملنا على رفع القضية إلى وليّ الأمر طلباً لإنصافنا منه، فيودعَ السجن ونمضي نحن نلعق في صمت جراحَ الفشل والخديعة على نحو ما ترى! وختم آهته قائلاً: هناك الكثيرون من أمثالنا، ولا عزاءَ لنا في ذلك، فالحق أحق أن يتبع، والباطل يجب أن يُقتَلع بالأمر والسلطان!
* * *
* إن موقفاً كهذا ليس بجديد ولا غريب طالما وجد بين البشر محتالٌ وضحيةٌ يربطهما في البداية صراط من (حسن الظن) يصل حدَّ الغفلة أو الاستغفال، وقد كتبت عن هذا الموضوع قبل أكثر من عقد من الزمان نبهت فيه إلى مثل هذه المواقف المؤسفة التي يذهب ضحيتَها (أبرياء) أعْشَى أبصارهم بريقُ المال، وأعمىَ بصائرَهم سرابُ النفع الموعود، فخاضوا تجارب، تبدأ بسلام فكلام، فابتسامة من الأمل والتفاؤل المطرز بالوعود، ثم ينتهي الأمر كله بأرق وفزع وخيبة أمل يندى لها جبين العاقل من البشر، ولو أُوتي أولئك (الأبرياء) حظاً من سداد الرأي ويقظة البحث ودقة السؤال ما آلوا إلى ما آلوا إليه، ولما وجد المحتال درباً يسلكه متسللاً إلى أفئدتهم قبل جيوبهم!!
* * *
* اليوم، أنتهز الفرصة لأُعيدَ نشر مقتطفات مما سبق أن كتبته حول الموضوع تكريساً للفائدة والتماساً للعبرة، فالاحتيال على عقول البشر وأموالهم عملٌ إجرامي، وإن تعددت صوره وتباينت أسبابه، فكمْ من مرة سمعنا أو قرأنا عن محتالين، في بلادنا وخارجها استغلوا سذاجة بعض المواطنين من رجال ونساء بادّعائهم القدرةَ على (استثمار) الأموال بعوائد وفوائد تعانق الخيال، وبعض أولئك الأدعياء يلبسون مسوحَ الدين، ليوهموا ضحاياهم بصدقيتهم، ثم يأتي يومٌ.. يفيق فيه (المغفّلون) أو الغارقون في سبات الثقة، فلا يجدون ربحاً في أيديهم ولا رأسمال، فيما يتوارى المستثمرُ (الثعلب) فاراً بجلده وبأموال الأبرياء خارج الحدود، وتبدأ بعد ذلك ملحمةُ شقائهم ومعاناةُ أجهزة الأمن و(الإنتربول) خصوصاً، في ملاحقة المستثمر النصاب من بلد إلى آخر حتى يقع في شباك العدالة!
* * *
وبعد..،
* فإن النظام لا يحمي المستَغفَلين، وليس من العقل ولا العدل أن (يُمكَّن) صاحبُ مال أو وليُّ حرزٍ نصّاباً أو محتالاً ممّا في حوزته، طيبةً وغباءً، أو أن يستسلم لمقولات كذّاب أَشِر، يزعم أنه يجلب له نفعاً أو يدفع عنه ضراً، فإذا وقع أحدُهم في الفخّ.. راح يندبُ حظَّه ويعتبُ ويلومُ، وهو أوْلى باللوم ومحاسبة النفس، ناسياً أو متناسياً أن هناك أكثرَ من وسيلة مالية مأمونة لاستثمار الفائض من المال، وبأسلوب يخضعُ لرقابة تراكمية داخل الجهاز وخارجه.. أما المتلاعبُون بثقة الناس وعقولهم وجيوبهم.. فما جزاؤُهم سوى العقابِ الصارم وبئس المصير!
* * *
* أخيراً، أوجِّه عبر هذا الحديث نداءً عاجلاً إلى من يهمه الأمر في بلادنا الغالية بسرعة التعاطي مع هذه المواقف المتكرِّرة ردْعاً لأَوزارِها، وحفاظاً على حقوق الأبرياء من ضحاياها، إظهاراً للحق، وردعاً للباطل، وفي الوقت نفسه، تكثيفُ جرعاتِ التوعيةِ للناس عبْر كلِّ المنابر تحذيراً من سماسرة الذمم الفاسدة!