في نجران عاش قس بن ساعدة الأيادي، كان معتنقاً للنصرانية، شأنه شأن غيره من سكان نجران، وتميز عن غيره بحكمته وفصاحته، التي استقاها من مجتمعه الذي يحفل بالعلم والثقافة، وقد ابتلى أجداده بغزو يوسف ذو نواس الحميري، وذو نواس لقب لملوك اليمن وليس اسماً، وكانت غاية الملك الحميري إجبار أهل نجران النصارى على تغيير دينهم والتحول من النصرانية إلى اليهودية التي كان يعتنقها، وقد حفر أخدوداً أوقد فيه ناراً ثم أخذ يرمي فيه أصحاب البلاد ظلماً وعدواناً حتى زاد عددهم عن اثني عشر ألفاً، وهي القصة التي ذكرها القرآن الكريم في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، فسماهم الله مؤمنين، وأنكر هذا الفعل المشين من قبل المعتدين، وفي هذا تتجلى عظمة الإسلام ورفضه الظلم والعدوان.
قس بن ساعدة الأيادي أدرك الإسلام ولم يسلم، لكنه لم يعاد الإسلام ولم يرفضه، وقد كان يعتلي سقيفة لبني ساعدة، ليراه الناس ويسمعوا صوته، ولعله أول من فعل هذا من العرب وله خطبة مشهورة معلومة، ولما تحمله هذه الخطبة من معانٍ عميقة، وجمل بليغة، ومفردات سهلة آثرت التذكير بها، ومما قال فيها: “أيها الناس، اسمعوا واعوا، وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إنّ في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبراً. ليلّ داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذاتُ فجاج، وبحار ذات أمواج. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضُوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا؟ تباً لأرباب الغافلة والأمم الخالية والقرون الماضية..... يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيّد، وزخرّف ونجّد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً، وأطول منكم آجالاً؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم الدهر بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية. كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود”.
ويقال إنه أول من قال من العرب في الخطبة: أما بعد. كما يقال إنه صاحب العبارة المعمول بها حتى الآن “البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر”.
هذه خطبة قس، تحمل المعاني الإيمانية الكثيرة، فلعلنا نعتبر، وننظر إلى الغد، ونعمل له، من خلال العمل الجاد في الدنيا، للقيام بالواجبات، ومنها عمارة الأرض، وحسن التعامل، والعدل، وحفظ حقوق الناس، والإنصاف من الذات قبل مطالبة الآخرين بذلك.
ومن قصص الإمام الشافعي في ذلك أن رجلاً جاء إليه وهو نائم، فقال له: صديقك فلان عليل، فقال الشافعي: والله لقد أحسنت إلي وأيقظتني لمكرمة، ودفعت عني عذراً يشوبه الكذب، ثم قال: يا غلام، هات السبتية، والسبتية نوع من الحذاء، ثم قال: للمشي على الحفاء، على علة الوجاء، “رقة القدمين” في حر الرمضاء مع ذي طوى “الجوع”، أهون من اعتذار إلى صديق يشوبه الكذب، يقول:
أرى راحة للحق عند قضائه
ويَثْقُلَ يوماً إن تركتَ على عَمْدِ
وحسْبُكَ أنْ ترى غير كاذبٍ
وقولكَ لمْ أعلمْ وذاكَ من الجهْدِ
ومن يقضِ حقَّ الجارِ بعد ابن عمهِ
وصاحبهُ الأدنى على القربِ والبعدِ
يعشْ سيّداً يستعذبُ ذكرهُ
وإن نابَهُ حق أتَوْهُ على قصْدِ
هذه أقوال من سلف، والله أعلم إن كان القول مطابقاً للعمل فالله بهم خبير، غير أن أهل زماننا ربما منهم من لا يحسن القول والعمل، والبعض قد يحسن القول ويقصر في العمل، وربما نرى من يجيد العمل ويعيبه حسن المنطق وهناك من يجمع بين الحسنيين، وقد يكونون قلة، ومهما كان الأمر، فمع وسائل الاتصال والتواصل الحديث، كثر الحديث واللغط، واختلط السيل بالزبد، ولم يعد أحد يعرف الصحيح من السقيم، والحق من الباطل، ولهذا فأصبح للعقل مقاماً للتمييز لمن له عقل راجح، وإلاّ فسوف ينساق خلف سراب لا نهاية له.