من عرف ورصد ما يُسمّى بالصّحوة في عقديْ الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، سيلحظ بوضوح أنّ من أهم ما أفرزته هذه الصّحوة التي عانينا من تخلُّفها وخزعبلاتها كثيراً كانت (ظاهرة التكفير). هذه الظاهرة وإنْ أصرّ أساطينها ومنظِّروها على أنهم امتداد حميمي لتيار السّلف والسلفية، إلاّ أنّ من يرصد أفكارهم ويقرأ بواعثهم وبالذات (السياسية) منها، يجد أنهم أقرب الفرق المعاصرة لفكر الخوارج، وتحديداً من يقول منهم بـ (الحاكمية) التي هي ذات الشعار الذي رفعه أسلافهم عندما قالوا مقولتهم الشهيرة : (لا حكم إلاّ لله) فسمّوا حينها (بالمُحكِّمة) من قِبل جمهور المسلمين، في حين سمّوا أنفسهم (الشراة) لأنهم حسب زعمهم باعوا الحياة الدنيا واشتروا الآخرة.
أشهر فرق الخوارج وأقربها إلى حد التطابق مع فرقة (التكفيريين) المعاصرة هم (الأزارقة) الذين يُنسبون إلى مؤسِّس فرقتهم «نافع بن الأزرق»؛ إلى درجة أنك حينما تقرأ في تراث هذه الفرقة ومقولات زعمائها وترصد ممارساتهم وسهولة (التكفير) والإخراج من الملّة في منهجهم، لا تجد أمامك إلاّ فرقة (التكفيريين) المعاصرة لهم مثيلاً .
صحيح أنّ التكفيريين المعاصرين يختلفون مع سلفهم في بعض التفاصيل العقدية، كالتكفير بالكبائر كفر ملّة مثلاً، غير أنهم يتفقون معهم في القضايا السياسية إلى درجة التطابق؛ بالذات وصم من اختلف معم سياسياً بالتكفير أو (الطاغوتية)؛ لذلك تجد أنّ هؤلاء وأولئك يرفضون رفضاَ قاطعاً (نظرية الطاعة) السياسية كما يقرّها السّلف ويتملّصون منها بتكفير من اختلف معهم حتى يسوغ الخروج عليه وقتاله . وهم - أي الأزارقة - لا يتردّدون في تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصواب مقتله؛ لذلك قال شاعرهم في عبد الرحمن بن ملجم عندما قتل علياً:
يا ضربة من مُنيبٍ ما أراد بها
إلا ليبلُغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه
أوفى البريّة عند الله ميزانا
وعنهم يقول «الشهرستاني» في كتابه (الملل والنحل): (وعلى هذه البدعة - أي بدعة التكفير - مضت الأزارقة وزادوا عليه - أي زادوا على تكفير علي - تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار جميعاً)!.. كما أنهم يعتبرون دارَ من اختلف معهم (دار كفر)، وبالتالي يجوز فيها قتل الأطفال والنساء لأنهم حسب تصنيفهم مثل (كفار العرب) وعبدة الأوثان .
الخوارج ظهروا في النصف الأخير من القرن الأول، وانتشروا وقويت شوكتهم وانتشر فكرهم لأكثر من قرن من الزمن، غير أنّ هذه الدعوات المشدّدة والمتطرِّفة والدموية لا يمكن أن تستمر، ربما أنها تنشأ وتستعر في ظروف معيّنة نتيجة لبواعث موضوعية - (ظروف الفتنة الكبرى مثلاً) - غير أنها تثوب (حتماً) إلى التلاشي شيئاً فشيئاً حتى تنتهي من الوجود فلا تذكر إلاّ في كتب التاريخ. ربما أنها قد تعود ثانية وثالثة ورابعة في ظروف معيّنة وطارئة، إلاّ أنها تعود وتتلاشى مرة ثانية إلى التلاشي والسقوط، وهكذا دواليك.
ومن يرصد فرقة التكفيريين المعاصرة يجد أنها من الآن بدأت فعلاً بالضمور والتلاشي والتناقص، ليس لأنها ضد نصوص الوحي وروح الإسلام ومقاصد الشريعة فحسب، وإنما لأنها ضد طبيعة الإنسان وفلسفة بقاء المجتمعات الإنسانية ؛ فالتكفير هو مرحلة أولى يأتي بعدها (القتل) وإراقة الدماء، وهذا ما رأيناها عند نشأة الأزارقة وميلهم إلى القتل وإراقة الدماء، وما رأيناه رأي العين - أيضاً - حين تبنّت (القاعدة) ثقافة الأزارقة و(التكفير) منهجاً ليستحلُّوا إراقة الدماء؛ الشيء الجديد على هذه الفرقة أنها ابتدعت فقهاً جديداً لم يعرفه فقه ابن الأزرق وهو فقه (إباحة الانتحار) وسمّوه (الاستشهاد)، طالما الانتحار سيُثخن في العدو ويُكلفه غالياً؛ متناسين عن قصد وتعمُّد قوله جلّ وعلا: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}، فضربوا عرض الحائط بهذه الآية (المُحكمة) وقدموا عليها اجتهادات وروايات وتخريجات و (مقولات) رجال تُفرِّغها من مدلولها (المُحكم) كما هو ديدن سلفهم (ابن الأزرق) وفرقته عند تعاملهم مع الآيات القرآنية.
إلى اللقاء .