* فُجعت أوائل الأسبوع الماضي بنبأ وفاة (المعلم) الكبير والمربّي المؤهل معالي الصديق الدكتور محمد بن أحمد الرشيد، وكان أشدُّ الناس شعوراً بصدمة رحيله المفاجئ أولئك الذين شاركوا في (سبتيته) الأسبوعية ذلك المساء الموعود، ليبلغَهم النبأُ الأليمُ بوفاته، ولم يكد بعضُهم يبلغ منزله، ذلكم قضَاءُ الله، ولا رادَّ لقضائه سواه !
* * *
* تبارت وسائطُ التواصل الاجتماعي في نعْيه ذلك المساء امتداداً حتى اليوم التالي، فهو لم يكن قامةً عاديةً بين الناس، بل كان قمةً عاليةً، خُلقاً وتأهيلاً وعصَامية، إلى جانب تواضُعه الرفيع في التعامل مع مَنْ يعرفه ومَنْ لا يعرفه، يُضَاف إلى ذلك كله نقاءُ نفسه من الشوائب التي تُفْسِدُ وجدانَ المرء، يقابلُ ذلك تسَامحُ القلب، وعَفْويةُ الخاطر، وحبُّ الناسِ، عزيزِهم وعابرِ السبيل منهم ! تغِيبُ عنه أشهراً أو يوماً أو يومين، ثم تلقاه، فيُنْزلك من نفسه منزلةُ مَنْ لم يفارقه أبداً : محبةً وأُلفةً وتقديراً!
* * *
* التقيتُ الفقيدَ - رحمه الله - أول مرة قبل نحو أربعين عاماً في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وكان حديثَ عهدٍ بالابتعاث للدراسات العليا من جامعة الملك سعود، في حين كنتُ أوشكُ أن أكمل دراسةَ الماجستير بجامعة جنوب كاليفورنيا، وكان لقاءً جميلاً لعبَ فيه الودُّ التلقائيُّ دورَ الوسيطِ في تجْسيرِ المسَافة بيننا، واستقرتْ محبّتُه في خَاطري منذ ذلك اللقاء، قبل أن يسلُكَ كلُّ منا دَرْباً قدّره الله له . ثم عدتُ إلى المملكة أوائلَ السبعينات الميلادية وعاد هو بعد ذلك بعَاميْن تقريباً يحملُ الدكتوراه متخصَّصاً في (التربية)، ليسْتأنفَ ركضَه الأكاديمي المتخصَّصَ عبر أروقة جامعة الملك سعود . ثم ينطلقُ منها إلى آفاق من العلياء، بدْءاً بقيادة مكتب الخليج العربي للتربية لسنوات، قبل أن يتسلّم مقْعدَ الوزارة !
* * *
* وإن أعجب من شيء في سيرة ذلك الرجل فهو ولاؤُه وانتماؤُه الشديدان لتخصُّصِه التربوي، حديثاً وكتابةً ومشاركاتٍ بحثيةٍ ومنبريةٍ داخل وخارج المملكة، خدمَ في الجامعة استاذاً وعميداً، وكانت له إطلالات صحفيةٌ منتظمةٌ في أكثر من مطبوعة، كانت التربية زادَها وماءَها وعطرَها !
* * *
* كان - رحمه الله - شُجَاعاً وصَرِيحاً في نقدِه لبعض الأنْسَاقِ والممارساتِ التربوية في المملكة، بحْثاً عن الأفضل، وتُنسَبُ إليه الدعوةُ الجادةُ إلى تحْويلِ مسَار التعليم في المملكة إلى «التربية» بمفهُومِها الحَدِيث، بحيث تكون تأهيلاً لبُنْيِة العقْلِ وبنَاءِ الإنسان، لا أن تكونَ وسيلةَ (تلقينٍ) للمعرفة و(تَخْزينٍ) لها حِيناً من الزمن، قبل أن تحطَّ رحالهَا في ساحة (اختبار) الذاكرة الحُوْلي، الذي (يُكرمُ التلميذُ عنده أو يهان) ! ويكون مسكُ الخِتَامِ لذلك الجهدِ والعناءِ والسهرِ النسيانَ والعودةَ إلى (الفراغ) عقلاً وروحاً وإنجازاً!
* * *
* إنّ من أهم ما يذكَّرنا بأبي أحمد، أنه كان مسْكُوناً بعشْقِ التربية، فِعْلاً وفاعلين، وسعيهِ لتحقيقِ ثلاث غاياتٍ سِمَانٍ : أولاها : تبنّي (التربية) عنواناً رئيساً لمسيرة التعليم، لتكونَ هي الغايةَ، فكانت (وزارة التربية والتعليم) ثمرةَ ذلك الجهد .
* * *
* وثانيها : تَحقيقُ فكرة (دمج) تعليم البنين والبنات تنظيمياً تحت مظلة واحدة، مع الأخذ في الاعتبار مسألة (الخصوصية) لكلا القطاعين انسَجاماً مع النسق الديني والثقافـي للبلاد .
* * *
* أما ثالثُها : فكان تبنَّي مادة اللغة الإنجليزية ضمن منهج المرحلة الابتدائية، وهو المنهج التربوي الصحيح في دراسة هذا اللغة وسواها في سن مبكرة، وكان كل ما سبق يحظىَ بدعم وتأييد القيادة الرشيدة لهذه البلاد، أيدها الله.
* * *
* ختاماً .. رحم الله أبا أحمد، معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد، فقد كان مربياً مناضلاً، جاهد واجتهد، وصابر وصبر، واستطاع خلال فترة (الوزارة) أن يحقق للتربية استحقاقاتٍ كانت لدى البعض حُلْماً بعيدَ المنال!