أمريكا الجديدة ..
أعترف أن الحديث عن العلاقة التاريخية بين العرب والولايات المتحدة الأمريكية يحتاج إلى مجلدات، ولكن ذلك لا يمنع أن نلقي بعض الإشارات عن تلك العلاقة التي بدأت منذ أن قررت القوة العظمى أن تعود إلى العالم القديم بجيوشها وعتادها لإيقاف اجتياح جيش أدولف هتلر لأوروبا الغربية، ثم تعزيز مكانتها بعد أن فرضت كلمتها لأول مرة في بلاد العرب والمسلمين في عام 1956م، بعد إعلان انتهاء دور بريطانيا وفرنسا في الشرق بعد العدوان الثلاثي عام 1956م، عندما أعطت أمريكا أوامرها للدول الثلاث في الخروج من سيناء، والذي كان فيه إعلان لانتصارها المطلق، وتسلمها زعامة العالم الغربي في مواجهة المعسكر الشيوعي.
لقد تنامت علاقاتنا مع القيصر الأمريكي في ظل الحرب الباردة، بعد أن فرض انقسام العالم إلى معسكر غربي وشرقي أن تتحد صفوف المؤمنين، وأن تتفق مواقفهم في الحرب ضد الشيوعيين الملحدين، وكان الالتزام ظاهراً في معظم الأزمات ما عدا أزمة الشرق الأوسط، والتي عادة ما كانت تثير بعض الزوابع في وجه القوة العظمى، لكن ذلك لم يؤثر على العلاقات الإستراتيجية، فقد كان أصحاب القرار في الشرق يتعاملون مع دوائر القرار الأمريكي من خلال علاقات المصالح الاقتصادية والإستراتيجية، والذي تتداخل فيها أيضاً المصالح الفئوية، ومنها أن تقوم تلك القوى بتقديم خدمات مميزة لصاحب القرار الأمريكي في حربها الدائرة آنذاك ضد المعسكر الشيوعي مقابل الحفاظ على الأمن في المنطقة.
خلال تلك الفترة كانت القوة العظمى تقرر في دوائرها السرية، ثم تهبط قراراتها إلى حلفائها في الشرق لفرض إرادتها على الجميع، ولا يحق لأي كان أن يعترض على تلك القرارات، وذلك لأن من المصلحة العامة أن نتقبل تلك القرارات بصدر رحب، وذلك لئلا تغضب أمريكا ثم تسلط شرورها وغضبها على الشرق، فيحدث ما لا تحمد عقباه، وكان السادات أول التائبين من معادة أمريكا عندما قال في حرب 1973م” لن أحارب أمريكا”، بعد أن شعر أنها تراقب كل شيء، وتدبر للانتقام إذا استمرت الحرب ضد إسرائيل، وكان أول العصاة صدام حسين عندما شذ عن الطود وتمادى في تمرده واحتل دولة الكويت، فكانت عقابه غزو واحتلال وتدمير لا تزال آثاره باقية في العراق إلى اليوم.
في حين اعتقد آخرون أن أمريكا لا تختلف كثيراً عن القيصر الروماني والكسرى الفارسي، واللذين كانا يتحكمان في العالم في مرحلة النبوة، وأن التعامل معها يجب أن يكون مثلما فعل أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام مع كسرى وقيصر، وأن جهادها بالسلاح هو الحل، وأن الأمة لن تستعيد أمجادها إلا بإسقاط الصنم الذي يبحث العرب عن رضاه في السر والعلن، وأن العلاقة معها في هذا الزمان أشبه بالشرك الذي وقع فيه العرب قبل الإسلام، وأن توحيد الله لا يتفق مع العلاقات الإستراتيجية مع القيصر الأمريكي، ولا سبيل عن محاربتها بسلاح الجهاد في سبيل الله، وأن نصر الله لقريب.
في الفترة الزمنية الأخيرة تبدلت الأحوال في الشرق القديم بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد تفاقم الدور الإيراني واشتعال الحروب الطائفية في بعض البلدان العربية، فقد أصبح حلفاء أمريكا التاريخيين والمجاهدين في نفق واحد رغم افتراقهم الشديد في غير ذلك، عندما أبدوا قلقهم مما يحدث في أروقة القرار الأمريكي، والذي لم يعد يتعامل مع الأحداث من خلال فلسفة الحرب الباردة، ولكن من خلال رؤية سياسية جديدة، فقد ظهر التراخي في القرار الأمريكي ضد بشار في مواجهة الثورة، واقتربت المساعي في إحياء العلاقة القديمة مع إيران، في وقت كان حلفاء أمريكا في المنطقة ينتظرون قدوم القيصر الأمريكي على دبابته لإعادة تنظيم المنطقة من شغب إيران وأذرعتها العسكرية في المنطقة، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
ويظهر أن أشياء كثيرة قد تبدلت في إستراتيجية العم سام، والذي يبدو أنه دخل طورا اقتصاديا مختلفا، ولم يعد يستطيع الركض في أرجاء العالم من أجل فرض كلماته بالقوة، كذلك أثبتت الأيام أن الزمن ليس القرن السابع ميلادي، وأن الأمة منقسمة على نفسها في صورة مأساوية، وأن الأرض العربية غير صالحة للتوحد كما حدث في صدر الإسلام بسبب النزاعات الطائفية والأيدولوجية، كذلك لم يعد لسياسة الاصطفاف جدوى بعد انتهاء مرحلة رص الصفوف في فترة الحرب الباردة، ولم يعد هناك سبيل في مرحلة التعايش مع أمريكا الجديدة إلا بإصلاح الأوضاع داخل الأوطان، وإعادة تأهيل الإسترتيجيات الاقتصادية والوطنية لبناء القوة الحقيقية الذاتية، التي تفرض احترامها على أمريكا وغيرها، والله المستعان.
