كثر الحديث في المجالس وبين الناس عن صفوة ونخب المجتمع، وهنا يأتي السؤال من هم صفوة أو نخب المجتمع؟ وهل هناك معايير لتحديد صفوة ونخب المجتمع؟ وهل هذه المعايير ثابتة لا تتغير من عصر إلى عصر؟
أما أن هذه المعايير تختلف بتغيير أشكال الثروة وأنماط الإنتاج والمكتشفات العلمية؟ لذا فإن تعريف الصفوة أو النخبة هم أصحاب النفوذ والثراء والثقافة في المجتمع، ولعل أهم مقاييس الرقي في أي أمة هو ارتباطها بصفوة المجتمع وهم أصحاب الثراء وأصحاب الفكر وكبار المثقفين وأصحاب المناصب الكبيرة والمستمتعين بالحياة الطيبة والهانئة، وعندما نرى أثرياء المجتمع لا علاقة لهم بفكر راقٍ أو فن رفيع، أو نرى المديرين والوزراء لا يتمتعون بحياة رغدة أو بثقافة واسعة، ونرى المثقفين يعيشون حياة بائسة، نحكم على المجتمع بأنه متأخر، أو على الأقل نحكم بأنه غير قادر على التقدم وخاصة في عصور التغيرات، وهذا راجع لعدم الوعي بنوع المستقبل الذي يفرض نفسه والجهل بالحاجات الجديدة للمجتمع. فعندما يسود هذا الجهل وتنعدم الرؤية الصحيحة للمستقبل، حيث يختلط الحابل بالنابل وينتشر القلق والاضطراب، عندئذ تنعدم القدرة على التقدم، بالتالي نجد أن تغير مواصفات الصفوة يأتي بتغير نوع الحضارة، فكانت الصفوة من الناس هم أصحاب الأراضي الزراعية وهم من يملك الثراء المادي، ففي وقت قصير انتقل الثراء من أصحاب الأراضي الزراعية إلى أصحاب المصانع والبنوك، لذا فإن بعد الثورة الصناعية في أوروبا أصبح أصحاب النخبة أو الصفوة هم أصحاب المصانع والمصارف، كما أن مواصفات المثقفين تغيرت بتغير المذاهب الثقافية والأدبية، كما تغيرات مواصفات أصحاب المناصب والنفوذ إلى مبادئ الحضارة الصناعية ويتمتعون بمهاراتها، إلاّ أنّ الصناعة التقليدية بكل قيمها أو نظمها تنهار، ليست بسبب ضعف الإنتاج الصناعي، وإنما بسبب ظهور تقنية جديدة فرضت الهجرة الواسعة من مهنة الصناعة إلى مهن أخرى حديثة تماماً، كما انهارت من قبل الحضارات الزراعية بسبب الهجرة الواسعة من الزراعة إلى الصناعة، وبانهيار الحضارة الصناعية وتغير صفوة المجتمع من أفراد يمتلكون المصانع ويسيطرون عليها، ومن مديرين يعملون على تدعيم نظام الحضارة، ومن مثقفين يدعون إلى قيمها، وإلى أفراد يدركون شكل الحضارة الجديدة يؤمنون بمعتقداتها ويدفعون مجتمعاتهم إليها، فقد أدّت التقنية الجديدة إلى مضاعفة إنتاج السلع الزراعية والصناعية، فكان من نتاج هذا أن اشتد تنافس المنتجين لتصريفها واشتدت تطلعات الناس نحو استهلاكها، وظنت الأغلبية أن زيادة استهلاك البضائع تعني دخولهم في زمرة الصفوة، ذلك أنهم لم يدركوا أنّ زيادة الاستهلاك هه كانت من مواصفات الأثرياء عندما كان الإنتاج محدوداً، أما في ظل الحضارة الجديدة، فلم تَعُد كثرة الاستهلاك من مواصفات الصفوة. فالصفوة بحكم التعريف لا يمكن أن تكون الأغلبية ولكن هناك حضارة تبحث عن صفوتها، حيث نجد أن في كل حضارة تقوم صفوة من المجتمع من المديرين بإدارة الإنتاج بكفاءة عالية وتقديم الحلول لما يظهر من مشكلات، وقد انحصر معظم العمل في الحضارتين السابقتين في الإنتاج الزراعي والصناعي، وانحصرت المشكلات فيما يهدد انتظام هذين الإنتاجين. أما الإنتاج الأساسي للأغلبية في الحضارة الجديدة فهو إنتاج الخدمات والمعلومات وهو إنتاج يختلف في طبيعته عن السلع ويحتاج إلى إدارته إلى ألوان جديدة بالكفاءة والموهبة، وفي كل حضارة أيضاً تقوم صفوة المثقفين بإمداد المجتمع بالأفكار والفنون التي تعمل على تدعيم الاستقرار والوحدة، وبث روح الحماسة والانتماء وتنمية الذوق الرفيع وحب الخير والجمال، وقد كان دور المثقفين في الحضارتين السابقتين محصوراً في الدعوة إلى الوحدة الوطنية، أو الاتحاد القومي والانتماء إلى الحزب أو إلى الجمعية أو الأمة من أجل تنمية الأذواق التي تتفق مع الحياة في ظل الزراعة والصناعة من أجل ذلك جاءت الحضارة الجديدة تطلب من المفكرين إلى أدوار أوسع وأشمل، وفي كل حضارة تقوم صفوة الأثرياء بتدعيم قيم هذه الحضارة، وذلك بإقامة المنشآت التي تدعو إلى معتقداتها وتشجيع معتنقيها وتحفيز المتفوقين في مهاراتها، وقد أصبح دور الأثرياء في الحضارات السابقة محصوراً في تدعيم قيم المجتمعات الزراعية ثم الصناعية. كما جاءت الحضارة الجديدة تتطلب دوراً أكثر إنسانية وإبداعاً لكن هناك محنة تواجه الصفوة الجديدة، وقد أدى هذا الاختلاف الكبير بين مواصفاتها إلى أن الصفوة في الحضارتين السابقتين هي نفس المواصفات في الحضارة الجديدة، مما أدى إلى إصابة المثقفين والمديرين والأثرياء أنهم غير قادرين على التأقلم، مما جعلهم يشعرون بشعور عنيف من الإرهاق والإحباط والمرارة والإحساس بالمذلة والمهانة وضآلة الشأن، فحاولوا إسقاط فشلهم هذا على بعض الرؤساء والوزراء، دون أن يدركوا أن الآخرين هم أيضاً ضمن الصفوة غير المتأقلمة المصابة مثلهم بالحيرة والقلق والاضطراب، وبالتالي بأمراض القلب أو الضغط النفسي، لقد ملأ الكتّاب ملايين الصفحات يشكون فيها أزمتهم، وامتلأت المعارض والمسارح والمواقع بكل الأعمال الغاضبة، وظهر السخط ليسود المالس والمؤتمرات، بل حتى الأثرياء امتلأت منتدياتهم بالتذمُّر والشكوى دون أن يكلف أحد نفسه بتوجيه السؤال الهام (لماذا نعيش عصراً لا تتطابق فيه مواصفات الأنواع الثلاثة من الصفوة، الثراء ، والثقافة وأصحاب المناصب الكبيرة)، فالإجابة عن هذا السؤال هي (إن تطابق هذه المواصفات لن يتم إلا إذا اشتركنا جميعاً في بناء الصفوة الجديدة على أسس الحضارة القديمة)، علينا أن نعمل على أن يؤمن المثقفون بفكر جديد يؤهلهم أن يصبحوا من أصحاب النفوذ من أجل حياة تؤهلهم لإصدار قرارات صحيحة، لذا فإن كل مشكلات الحضارة الصناعية، هي أنه يجب أن تتوقف الحروب وبالإسراع بالقضاء على التعصبات القومية والدينية والعنصرية، والوقوف أمام تجار السلاح وألاعيبهم كذلك فإنّ التلوث يجب أن يتوقف، والتعليم المتخلّف يجب أن يتوقف، وذلك بأن يحل محله تعليم جديد يشجع الفكر الحر والإبداع ويعمل على تربية إنسان جديد يشارك ولا يعادي. والإدارة المتخلّفة يجب أن تتوقف، وذلك بأن يحل محل المدير المتسلِّط، مدير يشجع روح التعاون والسعادة لدى العاملين.
لذا فإنّ شرور الحضارة الصناعية كالبيروقراطية والمركزية والنمطية والتخصص الشديد، يجب ان تعيها الصفوة الجديدة كل الوعي، لكي تدعو إلى نبذها وإصدار القرارات للتخلص منها وإعداد الناس لاجتنابها.