الجزيرة - وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية:
يُعتبر جذب الاستثمار الأجنبي المباشر بالمملكة من الملفات الشائكة؛ فالمملكة ليست كسواها من الدول الأخرى في حاجة للسيولة النقدية، ولا تعاني ككثير من الدول الأخرى من عجز داخلي أو خارجي في رؤوس الأموال؛ وبالتالي فهي لا تنظر إلى ملف جذب الاستثمار الأجنبي المباشر كسائر الدول الأخرى، بما فيها الدول المتقدمة؛ فاليوم تتطلع معظم الدول حتى لصغار المستثمرين. فغالبية الدول المتقدمة تتطلع إلى جذب مدخرات صغار المستثمرين بدءاً من (500 ألف دولار)، وكثير من الدول تترقب ضخ هذه السيولة بأي شكل كانت في اقتصادياتها، بصرف النظر عن أنشطتها أو توجهاتها. أما لدى المملكة فالأمر يختلف جذرياً؛ فالنظرة لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر تبدو استراتيجية، تتطلع من خلالها الدولة إلى نقل التقنية الحديثة، واكتساب الخبرات والمهارات، فضلاً عن إنتاج وتصنيع بعض المنتجات المهمة والحيوية على أراضيها بغية تقليل الاحتياج المستمر لاستيرادها من الخارج. إنها نظرة وتوجهات استراتيجية، تختلف عن مضمون مجرد جذب رؤوس أموال أجنبية. ولعل من أهم أسباب ذلك الاختلاف في أهداف جذب الاستثمار الأجنبي بالمملكة عن غيره من الدول الأخرى هو توافر السيولة النقدية ورؤوس الأموال بالمملكة ولدى المستثمرين الوطنيين؛ إذ إن كثيراً من المستثمرين السعوديين يعتبرون من كبار المصدرين لتدفقات الاستثمارات الأجنبية للخارج.
ملف الاستثمار الأجنبي المباشر هو ملف استثنائي بالمملكة، وتتعامل معه الإدارات المتعاقبة لهيئة الاستثمار بطرق مختلفة.. بل إن هذه الطرق تباينت واختلفت جذرياً باختلاف مرتكزات وتوجهات هذه الإدارات.. وبعضها أحرزت نجاحات غير عادية، حتى انتقلت بالاقتصاد الوطني إلى مستويات عالية من التنافسية، محتلاً المركز الـ(20) في مؤشر التنافسية العالمية لعام 2013م.
الهيئة.. من جذب 312 مليون دولار إلى جذب 12.2 مليار دولار سنوياً
رغم أن تدفقات قوية ظهرت للاستثمار الأجنبي المباشر للمملكة في بداية الثمانينيات، إلا أنها سرعان ما تراجعت منذ منتصف الثمانينيات، واستمرت في مستوياتها المتدنية حتى 2004م.. ففي 1990م لم تزد تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى المملكة على 312 مليون دولار، وهي قيمة زهيدة لم تكن تتناسب مع قوة الاقتصاد الوطني، وحجم تنافسيته عالمياً.. واستمرت هذه المستويات المتدنية حتى بلغت 183 مليون دولار في 2000م ونحو 1.9مليار دولار في 2004م. بعد هذا التاريخ بدأت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر تأخذ منحنى مختلفاً تماماً؛ إذ قفزت إلى 12.1 مليار دولار في 2005م، واستمرت على منوال صاعد طيلة الفترة اللاحقة حتى تكاد تستقر فوق مستوى الـ12.2 مليار دولار في 2012م. وقد تجاوز حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة منذ 2005 حتى 2012م نحو 188.3 مليار دولار، بما يعادل نحو 95 % من إجمالي رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة كافة التي تدفقت إلى المملكة في 2012م. أي أن ما أحرزته هيئة الاستثمار خلال السنوات السبع الأخيرة يعادل تقريباً (17) ضعفاً من كل إنجازاتها خلال الفترة السابقة على 2005م.
جذب انتقائي للاستثمار الأجنبي حالياً
هيئة الاستثمار خلال الفترة منذ 2005م تقريباً قادت عملية جذب شامل لكل الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وحققت نجاحاً ملحوظاً في هذا السياق، حتى أنها أفرزت تدفقات سنوية عالية للغاية وغير مسبوقة خلال عامي 2008م و2009م مستغلة فترة الأزمة المالية العالمية، التي شكلت أكبر فترة هروب للاستثمارات الأجنبية من اقتصاديات المناطق الساخنة أو المصابة بأعراض الأزمة المالية. وقد شكلت هذه الفترة عودة لكثير من الاستثمارات الوطنية للداخل، وأيضاً جذباً لكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ارتأت بالاقتصاد الوطني ملاذاً آمناً من ويلات الأزمة العالمية، إلا أن هذه الفترة أيضاً أشارت بعض الدراسات إلى أنها فترة جذب للكل، حتى أن هذه الاستثمارات المتدفقة للمملكة قيل إن كثيراً منها لا يشكل هدفاً استراتيجياً للمملكة. على سبيل المثال في 2009م توزع رصيد الاستثمار الأجنبي على القطاع العقاري بـ12.2 %، والتجارة 7.7 %، و8.3 % قطاعات متنوعة، بل إن البعض كان يرى أن هذه الاستثمارات تتوزع على كيانات صغيرة ومتوسطة أكثر منها كبرى؛ لذلك فالإدارة الجديدة لهيئة الاستثمار بدأت أسلوب الجذب الانتقائي للاستثمار الأجنبي، محققة هدفين في آن واحد، الأول الحفاظ على مستوى مقبول من حجم الاستثمارات السنوية المتدفقة للداخل، والثاني جذب الاستثمارات الأجنبية إلى قطاعات وأنشطة حيوية واستراتيجية للمملكة، تحقق هدفي نقل التقنية الحديثة، وإكساب عمالتها الوطنية مهارات دولية، فضلاً عن إتاحة المزيد من فرص التوظف لها. وينبغي القول إن الإدارة الجديدة لهيئة الاستثمار أحرزت نجاحاً استثنائياً خلال 2013م، وهو الترقي بمرتبة المملكة في بيئة الاقتصاد الكلي إلى المرتبة الرابعة عالمياً، وهو إنجاز لم يلاحظه الكثيرون، ويشكل ترقياً من المرتبة الـ (12) التي كانت تحتلها في تنافسية بيئة الاقتصاد الكلي في 11/ 2012م. رغم كل ذلك، فإن المملكة تعد إحدى الدول الكبرى المصدرة لرؤوس الأموال أكثر منها مستوردة؛ وبالتالي فإن قضية جذب الاستثمار الأجنبي المباشر ليست كسائر الدول، تصبو بها إلى جذب استثمارات مهما كان شكلها أو حجمها، ولكنها قضية لدعم تنافسية الاقتصاد الوطني وإكسابه المزيد من القدرات والخبرات من جراء ملامسة الاستثمارات الأجنبية فائقة التقنية، بل إن الاستثمارات المبتغاة في ضوء فلسفة الإدارة الحالية لهيئة الاستثمار هي استثمارات كبيرة ومتعددة الجنسيا، بما يضمن قوتها وجودتها وكفاءة تقنياتها. فالمملكة تُعتبر أكبر منتج ومصدر للنفط الخام في العالم؛ الأمر الذي يجعل قطاعها النفطي والتصنيع البتروكيماوي فيها يمتلك التميز التنافسي الأعلى على مستوى العالم، ويفترض أن تصبح المملكة هي الموطن الأول لاستقطاب كبرى الاستثمارات الأجنبية بالعالم؛ لذلك فإنه لا يزال جذب تدفقات سنوية للاستثمار الأجنبي المباشر بمستوى الـ12 مليار دولار سنوياً قليلاً بالنسبة لقدرات وتنافسية قطاع النفط بالمملكة، بل إن تقدير رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر في 2012م عند مستوى 221 مليار دولار يبدو قليلاً لمستوى الناتج المحلي الإجمالي للمملكة حالياً، الذي بلغ نحو 745 مليار دولار، أي أن نسبة رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الناتج لم تتجاوز 29.7 % ونسبة الاستثمار المتدفق سنوياً لا تتجاوز 1.6 %.