أتمنى، إن لم أقل (تأدباً) يجب، أن يكون لدى الحكومة والدولة في السعودية خطة واضحة قصيرة الأجل للتخلص التدريجي من فائض العمالة الأجنبية. البلد يتعرض لابتزاز سياسي واقتصادي وأخلاقي بسبب الاعتماد الكامل على المهارات والعضلات المستقدمة.
كانت غلطة تاريخية غير محسوبة النتائج، أن توضع التنمية الاستهلاكية المنتفخة على أولويات الاهتمامات، والتنمية العقلية والحرفية في المؤخرة. البكاء على بعض الحليب المسكوب لا يفيد، لكن يجب الانتباه والمحافظة على ما تبقى منه.
في آخر إحصائية للعام الماضي بلغت الأموال التي حولها العاملون الأجانب في السوق السعودي إلى الخارج مائة وخمسة وأربعين مليار ريال. هي حلال عليهم، فهذه الأموال كسبوها بالجد والمثابرة والشطارة. على أن هذه الأموال ليست هي الخسارة الأكبر للاقتصاد والمجتمع السعودي، فقد كان لها الكثير من المردود الخدماتي وبعض المقابل التقني الفني على الأقل. الخسارة الحقيقية التي لا يفرط بها سوى مجتمع متبلد ومنغلق، كانت فقدان أربعين سنة من فرص التدريب العملي الميداني واكتساب الخبرات لإدارة شؤونه وإنقاذ نفسه من الابتزاز المزمن.
حاجة المجتمع السعودي إلى العامل الأجنبي أصبحت مرضاً مزمناً، تماماً مثل المرض الجسدي المزمن الذي يتطلب شفاؤه علاجاً بعدد سنوات المرض، وأحيانا لا يمكن شفاؤه تماماً بسبب ما يتركه من ندوب وتلفيات وقصور عضوي في الجسد.
الكل، أو على الأقل الجزء الأكبر من المجتمع يعرف ما هي الأسباب ومن هم المتسببون في هذه الورطة التي سجن المجتمع السعودي بداخلها. ثمة أربعة أسباب رئيسية:
أولاً أغراض الدعاية والاستعراض في ممارسات البناء الحكومي والشعبي بما لا يتناسب عقلياً مع المردود ولا مع الحاجة ولا القدرة على الصيانة. من مهازل هذا الاستعراض بالفخامة كان الحصول على الكثير من الصروح الأسمنتية والزجاجية العملاقة بأغلى الأثمان على حساب الأهداف والكفاءة، بينما وفي نفس الفترة الزمنية استمر العجز في الحصول على الأعداد والنوعيات المعقولة من المدارس ومؤسسات التعليم الأساسية. المنازل المستأجرة التي قلبت فيها المطابخ والممرات إلى فصول دراسية تقول لنا بكل مرارة حسبنا الله عليكم كيف تدرسون أطفالكم هنا.
ثانياً قطاع جشع إلى أقصى الحدود من رجال الأعمال أغرق السوق بالعمالة الرخيصة على حساب المشاركة في بناء الإنسان الحرفي والتقني من أبناء الوطن، وهذا موضوع أشبع بحثاً ولم يتخذ تجاهه القرار المناسب.
ثالثاً الجنون الاستهلاكي المتفلت في كل شيء فتح الحدود كلها لعمالة أمية جاهلة، للاستيلاء على البقالات ومحطات البنزين والورش وتنظيف الشوارع والتخلص من المخلفات الاستهلاكية، بالإضافة إلى الاعتماد الأكثر خطورة على العمالة المستوردة في توفير متطلبات هذا الاستهلاك الجنوني من الكهرباء والماء والمؤسسات العلاجية.
رابعاً تعطيل النصف الأنثوي السعودي عن العمل، إلا في حدود عادات وتقاليد وأعراف من أزمنة قديمة ساذجة. ما نعيشه الآن كبدايات للتملص من الحجج القديمة بالضوابط الشرعية، يقدم الدلالات الكاملة على بطلان الأسباب القديمة للتعطيل. المؤلم في الأمر هو أن الحاجات الاقتصادية الضاغطة على النصف الأنثوي المعطل أجبرته على القبول بأسوأ الشروط والمواصفات للحصول على لقمة العيش الشريفة، وأن يتقاسم نصف هذه اللقمة مع السائق الأجنبي.
لو كلفت الدولة مجموعة من العقلاء النزهاء بتقديم دراسة خسائر المجتمع السعودي دولة وشعباً، بسبب الاتكال على الاستقدام خلال الأربعين سنة الماضية، لأصيب نصف أعضائها بالجنون والنصف الآخر بالإحباط.
مع ذلك يبقى أعظم الخسائر على الإطلاق التفريط في اكتساب المهارات الميدانية والاستمرار في قبول الابتزاز بكل أنواعه، السياسي والمادي والأخلاقي.