في الوقت الذي حطت فيه طائرة الأمير سلمان بن عبد العزيز أرض طوكيو وصلني مقطع يوتيب لمعالي الشيخ عبداللطيف آل الشيخ وهو ذو وجه يبعث على الارتياح وتطمئن لسماحته القلوب يذكر فيه مسيرة زمن هذه الدولة الحديثة المباركة التي أسسها الملك المجاهد والإمام الصالح عبدالعزيز بن
عبدالرحمن -غفر الله له- إلى هذا العهد المبارك عهد خادم الحرمين الشريفين الملك الصالح والإمام العادل عبد الله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين أمير الأمراء وشيخ العلماء صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبد العزيز متعه الله بالصحة والعافية، ويذكر أن هذه الدولة المباركة استمرت على تحكيم شرع الله والجهاد في سبيله من خلال تطبيق الشرع المطهر بالرغم مما ينالها من الأذى والإساءة ولكن الله يدافع عن الذين آمنوا....
رأيته سيدي ورآه العالم كله وهو يترجل من طائرته بخطواته المعهودة وتؤدته الهادئة ويستعرض حرس الشرف بطوله الفارع وقامته الشامخة وقسماته العربية وابتسامة الرضا التي لاتغيب عن محياه الطاهر وهو يحيي من يحييه من أباطرة القوم، وقلوبنا أجمعين كأنها على بساط الريح الخالد في تلك العبارة الخالدة من كتاب ألف ليلة وليلة والتي وقع اختيار اليابانيين عليها من آلاف العبارات ومئات الحضارات التي رسمت الوجه المشرق للبشر على ظهركوكبنا الأرضي وعلقوها في لوحة تدهش الزوار في أرقى مقهى في الدور الأعلى من برج سكاي تلك التحفة الفنية في مدينة أوساكا الباذخة، وهي: «والواقع أن هذا البساط يتمتع بقوة عجيبة فإذا جلست عليه سيحملك بلمح البصر إلى أي مكان تتمنى أن تذهب إليه، ألف ليلة وليلة» والتي أدهشتني في زيارتي الأخيرة لليابان قبل ثلاث سنوات تقريبا، والأجمل أن اليابانيين لما اختاروا هذا الكتاب العربي البديع فهم قد عرفوا قيمة كتاب ألف ليلة وليلة في التراث الإنساني وأدركوا سر ذخائر الخيال الشعبي ونفائس الموروث الحضاري وفي مقابل ذلك يصدر الأزهر الشريف بكل أسف فتاوى ترى ضرورة إحراق الكتاب بحجة تهم وخزعبلات ومفاهيم ليست موضوعية ليثبت التاريخ أننا أمة تتبرأ من مصادرها المعرفية وتزهد بتراثها الإنساني ومنظوماتها الأخلاقية ومستقبلها المشرق الذي يشفع لها عند الأمم ويخلق لها مكانا بين قامات حضارية بحجم أمة اليابان المجيدة، وربما هذا الفكرالإقصائي هو الذي جعلنا نحن العرب لانجد لنا مكانا في تصنيف المعرفة العالمي مع أننا نملك بمفهوم العصر أولى جامعات العالم وهي جامعة القرويين بفاس..
لايدري من يكتب عن الأميرسلمان من أين يبدأ وبما ينتهي، ويكفي سيدي سلمان أنه إنسان المعرفة الذي لاتكاد تمل من حديثه عن فلسفة الأشياء ومنطق العلوم المختلفة كالتاريخ والفقه والتفسير واللغة والأدب وأيام العرب والإدارة والسياسة والطرائف الأدبية والسياسية، يعطيك إشارة لقضية تحتاج إلى أن تبحث فيها وقتا طويلا، وربما يدلك على مصدرها ويحدد لك صفحتها بدقة، وربما كلف من يحضر الكتاب من مكتبته في مجلسه العامر، ويكفي سيدي سلمان أنه مهندس الحضارة والذي يبهرعينيك هندسته في رسم لوحة المدينة الرياض تلك المدينة التي استنبتها برؤيته من الحلم المستحيل، ويكفي سيدي سلمان أنه الأخ الوفي والصديق المنصف والعبقري الذي لاتفوته الشوارد والذي لاتكاد الذاكرة الإنسانية أن تتجاهل مواقفه الأسرية وعواطفه الجياشة تجاه الأيتام والأرامل والفقراء والأصدقاء والمحبين، ويكفي سيدي سلمان أنه سلمان البر والإحسان والذي لايكاد الإحصاء أن يأتي على اللجان التي تبناها والجمعيات الإنسانية التي رأسها أو وضع بصمته عليها، ويكفيه حقا انه كرزما استثنائية لاتتكرر..
لكل امرئ منعطفات في حياته ترسم خطوط طوله ودوائر عرضه وملامح حياته وعلاقته فيما حوله وفيمن يحيطون به وتأثيره وتأثره بهم، وفي الغالب تأتي متأخرة لتبني تجربته الإنسانية وقد تأتي دونما فائدة، وقد تأتي الحكمة المرء إن كان محظوظا في منتصف العمر وقد ولى الباقي بلا رغبة ولاحماس، وقد يطمس آثارها العجب والغرور والكبرياء الذي يفقد بوصلتها الاتجاه الإنساني ولكن منعطفات الأمير سلمان بدأت مبكرا في كنف ملك عظيم كعبد العزيز وأخوة ملوك حمل لهم كل الولاء والمحبة والتضحية أربعة منهم مضوا إلى ربهم حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله أطال الله في عمره والذي ينص الأمير سلمان في كل مناسبة على أنه الملك والأخ والحبيب والصديق والكنف الذي تعلم منه الصورة الإنسانية المجردة من كل مايشوبها وباتجاه القبلة دائما، ليصوغ سيدي سلمان ذاته التي تعب عليها حتى وصلت هذا الحد من المعرفة والرحمة والإنسانية فاستحضر مسؤولياته الجسيمة منذ فجره الأول، ولم يختصر الدنيا في الصلاحيات فقط دون المسؤوليات تجاه الله جل جلاله وتجاه الإنسان والإسلام، ولم يغب عن ذهن سموه أن قوة الإنسان تكمن أسرارها في ضعفه، وإقرارا لتلك القوة الإنسانية واستجابة لمحصلتها النهائية تذرف دمعته أمام طفل يتيم ومشهد مؤلم وموقف صلح وامرأة ثكلى وموقف لايجد له حلا كموت الإخوة والأبناء والزوجة رفيقة الدرب، أولئك العظماء وحدهم من يبرهنون على أن الحياة ليست نقيضا للموت، وخلودهم في الحياة هو مايفسر ذلك العطاء في كل الحالات وأكبر بكثير من ذلك الوهم الذي يعتقد أن المجد يقاس بقدر ماتحصل عليه في الحياة وحدها وتتذوق لذته، أولئك العظماء يشقون طريقهم إلى الشموس ولو بمخالفة ظلالهم، ويسيرون وإن تعبوا تربعوا على عروش القلوب وعلى رؤوسهم التيجان واليقين الأشبه بيقين الأنبياء الذين يعشقون مبادئهم بعد أن كفروا بذواتهم،وثمة فرق بين من يعشق ذاته ومن يعشق مبدأه، فالأول تفرزه النرجسية والآخر تفرزه الإنسانية، الأول يفرزه الطغيان ويصب غضبه وجحيمه وعقده على العالم والآخر تفرزه العدالة ويكون عونا لترسيخ المبادئ والقيم في ذلك العالم، ولذلك كل الطغاة الذين مروا بتاريخنا البشري كانوا يعشقون ذواتهم بجنون فدمروا وتدمروا وأفسدوا مشروعهم ومشروع من كان قبلهم، وكل الأنبياء والمصلحين والعظماء والنبلاء كانوا يعشقون مبادئهم فرسموا للبشرية الحضارات وسبل العيش وحققوا التوازني أطراف معادلات الكون، أولئك العظماء هم من يبنون مجدهم بأنفسهم ويضيفون أمجادا لمجدهم العريق ويحسنون اختيار من يعينهم على تلك المرحلة من الرجال المخلصين للمشروع، والمفلسون هم من ينتهي عندهم ذلك المجد العريق أويبدأ بالانحدار إلى حد الإفلاس، وحينها تكون الخسارة أعظم من وهم الأرباح المتخيلة...
صدقا قلوبنا مع سموه في رحلته هو في طائرته الميمونة ونحن على بساط الريح، غادر إسلام آباد الباذخة بالرغم من كل جراحها الداخلية والخارجية فرفعنا الأكف للمولى متضرعين أن يصل بالسلامة ولم تفتر تلك القلوب إلا على رسائل سبق الإلكترونية التي تؤكد وصول سموه إلى طوكيو وأن امبرطورية اليابان كلها بقياداتها وتاريخها العريق وطموحها الذي علم الشعوب معاني الانتصار الحقيقي كانت في استقبال ذلك الأمير العربي القادم من بلاد النور والمعرفة والإسلام، ثم غادرها إلى الهند العريقة بلاد العجائب والتي علمت البشر معاني التعايش على اختلاف عرقياتهم ولغاتهم دون تمييز عنصري أو طائفي أو عرقي، الهند التي اكتسحت العالم بعقول أبنائها الهنود في التكنولوجيا وشبكات الاتصال ولم تهدأ قلوبنا حتى أعلنت رسالة سبق عن وصوله سالما يستعرض حرس الشرف الهندي، ثم غادرها إلى المالديف جزر ابن بطوطة (ذيبة المهل) والتي قال ابن بطوطة عنها في «رحلته»: عزمت على السفر إلى ذيبة المهل، وكنت أسمع بأخبارها. فبعد عشرة أيام من ركوبنا البحر بقالقوط وصلنا جزائر ذيبة المهل، وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، والمهل «بفتح الميم والهاء». وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا، وهي نحو ألفي جزيرة، ويكون منها مائة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة، لها مدخل كالباب، لا تدخل المراكب إلا منه. وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر»..
صدقا إن الأمير سلمان في هذه الجولة الآسيوية التي شملت دولا ذات تأثير في الواقع العالمي يعلم الدنيا حجم المملكة العربية السعودية ويؤكد على حسن تدبيرها وسلامة سياستها وتعزيزها للسلام والسلم والعلاقات والصداقة ونصرة المظلوم من أخيه الظالم والبحث الجاد على أن تنعم البشرية قاطبة بالكرامة والعدالة والمساواة، يحاور ويلتقي ويناقش ويمنح ويستقبل ويزور ويداعب والأجمل في تلك الرحلة أن مابين كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب ابن بطوطة تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار اختصارا لتاريخ إنساني وحضارات أمم تحمل هواجيسها وأحلامها، كوابيسها وأحزانها وصراعاتها وشخصياتها الخالدة، رحل بعضهم وترك وراءه جماعات متراصة الصفوف لاتخترقها العوادي والأقدار المؤلمة، ورحل آخرون وقد أورثوا من بعدهم جروحا لاتندمل، وعلى العقلاء أن يعرفوا أن يسيطروا على سنة التحول والتغيير بما ينفعهم وينفع غيرهم ويثبت مشروعهم على أي حال كانت الرياح والأعاصير والأيام..
والله من وراء القصد