أنا على يقين لا يُخالجه شكٌ أن أفضل طريقة لتحجيم ومحاصرة التطرف والتشدد الديني والغلو وبالتالي الإرهاب، يكمن في الانفتاح على العالم و(التنمية) بمعناها الشامل، فتاريخ كل الدول العربية المعاصرة يقول إن ثمة علاقة عكسية بين انتشار التطرف والتشدد والغلو بين الناس وتراجع معدلات التنمية، فكلما زادت معدلات النمو الاقتصادي واستفادت منها قدر الإمكان أغلب طبقات المجتمع، كلما انخفضت معدلات تفشي التشدد والإرهاب، وفي المقابل عندما تنخفض هذه المعدلات، أو تنعدم بتوقف التنمية أو شللها، فإن التطرف والتشدد ترتفع معدلات انتشاره بين طبقات المجتمع، والأرقام والإحصاءات تُؤكد هذه النظرية، ففي اليمن - مثلاً - وكذلك في عراق المالكي اللتين يعتبرهما الإرهابيون بيئتين نموذجيتين لعملهم، تجد أن تدني معدلات التنمية في تلكما الدولتين هو شرط الضرورة الذي لا بد من توفره ليتمكّن الإرهابيون من عملهم، وبذلك يمكن القول بشكل علمي ودقيق إن التنمية الاقتصادية الشاملة لو استطاعت النفاذ إلى أغلب طبقات المجتمع اليمني أو العراقي، لحاصرت بشكل تلقائي الإرهاب والإرهابيين، فلا يجتمع إرهابٌ وتنمية إطلاقاً وتحت أية ظروف، فإذا حضرَ هذا تراجعَ الآخر تلقائياً، والعكس صحيح تماماً.
والإرهابيون بكافة توجهاتهم يُدركون ذلك ويعونه تمام الوعي، فجماعة الإخوان الإرهابية، التي صنَّفتها خمسُ دول عربية بما فيها المملكة على أنها جماعة إرهابية، تُحارب (التنمية) في بلادنا من خلال حربها لما سمته (التغريب)، فهم يدركون أن التنمية تعني نهايتهم، حتى أصبح هذا المصطلح المُختلق تماماً وغير المنضبط والفارغ يُردده كثيرون حتى من غير الإرهابيين، دون أن يُكلف أي واحد منهم نفسه ويسأل: (ما هو التغريب المطلوب محاربته؟).. وللأسف انطلت هذه العبارة على كثيرين، فانضووا تحت لواء محاربة التغريب دون أن ينتبهوا لحقيقة مؤداها أن ما يحاربونه هو التنمية على الطريقة التي أصبح بها (الغرب) وكذلك (الشرق) متفوقاً تنموياً، وبقينا نحن في قاع العالم المعاصر نعاني من الانغلاق والتخلف ونئن من التشدد الديني وأهم مخرجاته الإرهاب.
وأتذكَّر عندما أعلن الملك عبد الله - حفظه الله - عن مشروعه التنموي العظيم الذي سيُسجله له التاريخ بأحرف من نور وهو (برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي)، شنّ على المشروع أساطين هؤلاء هجوماً عنيفاً، والحجة أنه (يُكرس التغريب)، حتى إن كثيرين من مشايخنا - للأسف - ممن لم يُعرف عنهم موقفٌ حركي مساند للإرهاب، ركبوا الموجة، وردّدوا نفس التحذير الفارغ، عن بساطة وسذاجة، وكأن رفع معدلات التنمية الاقتصادية، وصناعة الإنسان الواعي والمتحضر من خلال التعليم (رجسٌ من عمل الشيطان) يجب اجتنابه، غير أن المسكوت عنه، والذي لا يصرّحون به، ويتفادون الخوض فيه، أنهم يدركون أنك إذا هيأت إنساناً مُتعلماً، بعيداً عن حواضنهم التعليمية الحركية، فأنت تصنع (تلقائياً) تنمية حقيقية، والتنمية، أو سمّها إن شئت (التغريب)، تعني أن قدرتهم على توجيه المجتمع والسيطرة عليه ستتراجع عن معدلاتها الحالية، وبذلك يخسرون سطوتهم وسلطتهم.
والآن هناك أكثر من 150 ألف شاب وشابة سعوديين ينهلون العلم من مناهله الحقيقية في الغرب والشرق، وحرصهم على دينهم ونقاء عقيدتهم وكذلك وطنيتهم مُطمئنة للغاية، بمعنى أن هؤلاء الحركيين عندما حذّروا من الابتعاث بحجة (التغريب)، لم يكن ذلك بسبب الخوف على عقيدة الطلاب كما يزعمون، ولكن خوفهم أن يُفلت (قادة المستقبل) الشباب من سيطرتهم وأدلجتهم وإشغالهم عن قضايا التنمية الشاملة بقضايا أخرى تُكرس التخلف وتُبقي الشاب بعيداً عن معرفة أصول التنمية الحقيقية، حتى تتكرَّس في النتيجة المشاكل التنموية وتتجذَّر، فيقفزون هم من خلالها إلى تحقيق أهدافهم السياسية وهي الوصول إلى السلطة كما وصل أقرانهم في مصر، فكادوا أن يلقوا بها إلى التهلكة.
إلى اللقاء.