أقول لكل من يبحث عن رواية تستحق القراءة في هذا الزمن المزدحم بكل الأشياء في أشكال روايات تفتقد كل استحقاق: اقرأ هذه الرواية، بدلاً مني، أرجوك.. ولا تحك لي شيئاً عن أحداثها التي أحسبها ستنتهي إلى ما لا تحتمله طاقتي المنهكة.
اقرأها جيداً، وبمتعة كبيرة، بعيداً عني.. فهي رواية لا بد أن تقرأ ولكن ليس أنا من لا بد له أن يقرأها. تصفحتها في البداية، سطراً من صفحة وغيره من أخرى، أعجبتني تراكيب الجمل وعبارات الوصف وأجواء الأحداث، وأزعجتني قليلاً تلك (التسهيلات) - ولا أقول الأخطاء - اللغوية والنحوية على قلّتها، غير أن الخطوط العامة للرواية بمنتهى الروعة والرقي الأدبي والحبك الدراميّ الذي يجعلك تشعر بالعلاقة الحميمية مع البطل خطوة بخطوة وكأنك في منتصف رحلة معه منذ الصفحة الأولى. إلا أنني لم استطع قراءة الرواية كاملة رغم حجمها غير المتضخم (139 صفحة فقط) قرأت منها حتى الصفحة 48 وتوقفتُ، بعد أن أصابني كثيرٌ من الألم الذي يفوق قدرتي على الاحتمال.
لم استطع إكمال الرواية لسببين قويين جداً، ولا ثالث لهما عندي.. فالسبب الأول: أن بطل الرواية اسمه (فيصل)، والسبب الثاني: أن اسمي (فيصل) أيضاً.!
سامحك الله يا أحمد الدويحي، لماذا أهديتني روايتك القاسية هذه؟ ولماذا كتبت في إهدائك لي ما كتبتَ مشفوعاً باسمي المفرد (فيصل) وكأنك تذكرني به منفصلاً عن اسم جدّي (أكرم) الذي لا تنفك تناديني به أينما التقيتني؟ ألا تعلم يا أحمد أن بعضَ عذابات بطل روايتك بعضُ عذاباتي، وأخاف أن تصل قراءتي إلى كلّها فيفجعني في كلّي؟؟
قبل أكثر من عشرين عاماً، قرأتُ مجموعة قصصية عنوانها (البديل) للمبدع القاص أحمد الدويحي، وأذكر أنني أمضيتُ وقتاً ممتعاً أثناء قراءتها، ولم أكن أعرف أحمد الدويحي شخصياً، إذ كان هو علماً من أعلام القصة القصيرة وكنتُ أنا في بداياتي مع الشعر والكتابة، حتى صادفني ذات مساء قريب في مناسبة أدبية فصاح بي: هذه أول مرة أراك، لماذا؟ ولم نلتق بعد ذلك إلا مرات قليلة في مناسبات مماثلة وكان في كل مرة يصيح بي: لماذا؟ والآن أنا من سيصيح به: لماذا!
رواية أحمد الدويحي الجديدة (غيوم امرأة استثنائية) صادرة عن دار جداول عام 2013 وتتحدث عن حالة استثنائية يعبر من خلالها رجلٌ معذَّبٌ اسمه فيصل، وامرأةٌ لا تقلُّ عنه عذاباً اسمها ليلى.. يستحق كل منهما قطرات ساخنة من الدموع، ولكن من عيون أخرى غير عينيَّ المتحجرتين من حسرةٍ تتداخل بين السطور وتستضيف ما يحيلني إلى صدماتٍ تهوي بي كلما تذكرتُ بعضاً من فواجعها. فيصل، الذي تابعته حتى منتصف الفصل السابع من الرواية، لم يكن يشبهني أبداً، ولا أنا أشبهه في شيء.. فلا ظروفي تشبه ظروفه ولا ليلاه الحاضرة تشبه ليلاتي الخوالي، وحتى أمراضنا كادت أن تكون غير متشابهة.. تمنيتُ أن تخلو قائمة أمراضه - أو أمراض ليلاه، سيّان - من (القلب) ولكنّ المؤلف أصرَّ على أن يتوّج به القائمة فتوقفتُ عن إكمال القراءة لأنني لم استطع. فحين عرف فيصل المقروء بأن ورماً خبيثاً قد استفحل في قلب ليلاه، سقط فيصل القارئ مغشياً عليه ينوح قلوباً قد استفحل غيابها في قلبه المحتقن بالأمصال.
يقول د. سلطان بن سعد القحطاني عن الأديب أحمد الدويحي، في قاموس الأدب والأدباء: (يحرص دائماً على أن يصل إنتاجه إلى الآخرين بالطرائق الثقافية المتاحة) وأنا استغرب هنا عدم حرص الدويحي على إيصال إنتاجه لي إلا هذه المرة، وبهذه الرواية، ومع هذه القسوة التي انبرى البطلُ متخبطاً على جنباتها حتى أطاح بي خارج المتابعة مرغماً.
ختاماً أقول: أحمد الدويحي أديب قاص وروائي كبير، يمعن في وصف الأحداث إمعان الكبار، ويذكّرني كثيراً في أسلوبه بأسلوب الراحل عبد الرحمن منيف، ولعل الدويحي يتقصد ذلك أو لا يخفيه أو لعله يعتز به حتى من عناوين بعض أعماله مثل (مدن الدخان) و(ثلاثية المكتوب مرة أخرى) ولم أقرأ العملين حتى أعرف مدى تماهيهما مع (مدن الملح) و(شرق المتوسط مرة أخرى) لعبد الرحمن منيف الذي قرأته جيداً حين كنتُ قادراً على النأي بالقارئ عن المقروء. وخلاصة قولي: شكراً أحمد الدويحي على إنجاز رواية أستطيع أن أشير إليها باعتزاز، على أنها من كبريات الروايات المحلية الحديثة، التي تستخدم التقنية العصرية وتجعلها الممشى والمتكأ لكل شخوص الرواية الممثلين في رجل وامرأة أرى الاستثنائية تجمعهما معاً، لا المرأة وحدها. وأعترفُ قانعاً بعدم قدرتي على إكمال قراءة هذه الرواية، وأقسم أنني لن أحاول مرة أخرى بعد الهبوط الحاد الذي حدث في قلبٍ افتقد قلوباً كثيرة حين كان متورطاً في المتابعة لما يجري بقلبيْ فيصل وليلاه.