في سبتمبر من العام الماضي أعلنت شركة بوينج الأمريكية أنها نجحت في تحليق طائرة حربية من طراز (F16) المقاتلة وإجراء مناورات قتالية، ثم الهبوط بها بدون طيار في قمرة قيادتها، بل إن الطيارين اللذين قادا الطائرة كانا في الأرض وتوليا قيادة الطائرة من خلال جهاز تشبيه للطيران في قاعدة (تياندال الجوية) بفلوريدا، وقالا إن ذلك لم يختلف كثيرا عن قيادة الطائرة من قمرتها.
قد لا يجد البعض آثاره في هذا الخبر, فالتحكم عن بُعد هو أمر قديم وله تطبيقات كثيرة والطيران أحدها فمؤسسات الفضاء والطيران بأمريكا وروسيا ودول أخرى كثيرة تتحكم منذ زمن بالأقمار الصناعية والمركبات الفضائية عن بُعد، وكذلك أصبحت الطائرات بلا طيار والمعروفة بمسمى (Drone) سائدة الاستخدام في دول عدة، ومنها ما يصنع عندنا في المملكة.
المختصون بالاتصالات يعلمون أن ذلك الحدث هو ثورة في الاتصال وتمكين هائل للتقنية، فالتحكم عن البعد يقوم على ثلاثة عناصر أساسية (قدرة الخرج) وهو مقدار الطاقة الناقلة للإشارة اللاسلكية و(تردد الإشارة) وهو مقدار تذبذب الإشارة في الثانية و(بروتوكول الإشارة) هو لغة التخاطب بين الجهاز المرسل والجهاز المستقبل، وعند تصميم أجهزة التحكم عن بُعد يعنى بهذه العناصر، فقد تكون الإشارة المطلوبة هي تشغيل أو إطفاء، فتكون كمية البيانات محدودة جداً أو قد تكون استقراء معلومات، فتكون أكثر من الأولى أو تكون إرسال صور فتكون أكثر بقدر أكبر وعند نقل الفيديو الفائق الوضوح تصبح البيانات المنقولة كبيرة جداً، وفي حالة التحكم بالطائرة المقاتلة بصورة أنية تبرز تحديات اتصالية جديدة، منها البعد والقرب في المسافات، فالمسافات الأبعد تحتاج قدرة خرج أكبر، وسرعة الطائرة ومناورتها تجعل من توجيه حزمة الاتصال بين مركز القيادة والطائرة تحديا تقنيا بحد ذاته، وهناك تحد آخر يكمن في اعتراض أجسام صلبة كطائرات أخرى لحزمة الاتصال مما يؤثر في ثبات الإشارة وقوتها، هذا إلى جانب تحديات التشويش وتداخل الإشارات وشبكية الاتصال فيما لو كان هناك أكثر من طائرة في المجال وكل منها تعزز اتصالات الأخرى أو تتناوب معها، والتحدي الأكبر هو الكمية الهائلة من دفق البيانات الآني باتجاهين، مما يتطلب قدرة معالجة هائلة وسريعة بحيث تتغلب على ما يعرف بعلم الاتصال (Latency) هو مقدار الوقت اللازم لمعالجة دفق البيانات وتحويلها لمضامين.
ولا شك أن شركة بوينج لم تقدم على هذه الخطوة ما لم تكن قد تغلبت على معظم تلك التحديات وهو يمثل اختراقا تقنيا هائلا.
التمكين التقني للإنسان لن يقف عن حدود طالما هناك حاجة وهناك إبداع، كنا في الماضي نعتقد أن تقنية الروبوتات ستقود لإنتاج روبوتات تنافس الإنسان في كسب عيشه فنصبح عبيد آلية يقتنيها الأغنياء، خصوصاً إذا اكتسبت خاصية التفكير واتخاذ القرارات، وقد أنتجت هوليوود أفلام خيال علمي تتحدث عن سيطرة الروبوتات على البشر واستعبادهم بقدراتها الميكانيكية الفذة وعقولها الحاسوبية التي اكتسبت القدرة على التعلم الذاتي، ولكن الفيلم الذي فتح الأذهان على ما يمكن أن تمكن التقنية الإنسان، هو فيلم (Avatar) الذي يعني (الجسد البديل) حيث حسب الفيلم يتمكن العلم من توليد أجسام عضوية لها صفات فيزيائية تفوق صفات البشر وتبرمج عقولها، بحيث تتصل بأجهزة حاسوبية فائقة القدرة، مضمنة في جهاز يشبه التابوت، فيدخل الإنسان ذلك التابوت الذي يقوم بعمليات حاسوبية عدة، بحيث يصبح (الجسد البديل) في اتصال تام مع الإنسان يتصرف حسب أفكاره ويشعر بما يشعر ويندمج فيه بصورة تامة فيتيح الجسد البديل للإنسان حياة تفوق قدراته البشرية. ما أقدمت عليه شركة بوينج هو سير في هذا الاتجاه فالطائرة المقاتلة في المستقبل ستصبح (جسدا بديلا) للطيار، وهذا تجلٍّ من تجليات العلم في تمكين الإنسان، فإلى أين سيقود العلم هذا الإنسان!!!