كنت صغيراً، ربما خلال المرحلة المتوسطة من الدراسة، حين أكون في زيارة أختي يرحمها الله، في منزلها الجديد بحي الربوة، فأجد المجلس عامرا بالضيوف، ومن بينهم الشاعر الأنيق عبدالكريم العودة، وهو يظهر خجولا ببذلته الإفرنجية، بينما الآخرون يرتدون الثياب، وذلك في مناسبة توديع الشاعر الذي يتهيأ للسفر إلى الولايات المتحدة، وهو الذي تربطه علاقة صداقة قديمة بزوج أختي عبدالعزيز العقيل.
أذكر أنه، كما تطوف فناجين القهوة والشاي، كانت قصيدته الجديدة، من بضع صفحات، مطبوعة بالآلة الكاتبة، تطوف بين الحضور، وحين تصل إلى يدي، أقرأها بصمت دون أن أفهم شيئاً، لكنني أجزم بأن فيها ثمة كلمات وعبارات شعرية جميلة، تفوق فهمي ووعيي آنذاك.
مرت الأيام والسنوات، كبرت وقرأت الشاعر من جديد، تتبعته في «سماء ثامنة» زاويته الأسبوعية في اليمامة، أحببته أكثر بعدما اتسعت قراءاتي، أدركت رؤيته من خلال القصيدة والمقالة. كبرت وتعلمت الكتابة، وشاءت الأقدار أن تجمعني بهذا الشاعر الملهم، سواء في كلماته، أو في أخلاقه ونبله، فصمم موقعي الإلكتروني الشخصي، كما صمم مواقع عدد من المبدعين، كنا أصغر منه لكننا نعرف فتح الحاسب والدخول إلى المواقع والمنتديات، بينما هو يكبرنا سنا، ويصغرنا في إدراك التقنية، كأنما هو يسبق زمنه دائماً.
لم يكن غريباً على رجل نبيل أن يرافق مريضاً للعلاج في الصين، لكن الأكثر غرابة أن يبحث هو عن مرافق حين أنهكه بياض قلبه، وأسقطه في بلاد غريبة... كانت لحظة قلق أحاطت بي، حينما قرأت مقال صديقه، وصديق الجميع، الملحق الثقافي السابق بلندن، القاص عبدالله الناصر، وما أن فتحت «تويتر» حتى وجدت الجميع، كما هم منذ ثلاثين عاماً، يتفقون على محبة هذا الرجل النبيل: عبدالكريم العودة، ويتمنون له الشفاء العاجل، والعودة سريعاً إلى أرض الوطن.
لم يتأخر الأمر الملكي بعلاج هذه القامة الأدبية الكبيرة في ألمانيا، كما لم يتأخر المحبون بالدعاء له، ومؤازرته في أزمته الصحية.
سنوات مرت، وأنا أتأمل هذا الفنان، الذي يكتب قصيدته المنسابة كحلم، يعلمنا كيف نغسل قلوبنا بالحب، ونلوّنها بالياسمين، سنوات وهو يعلمنا كيف نكتب، كيف نحضر، وكيف نذهب في العزلة، وها نحن ننتظره أن يعلمنا كيف نتحامل على قلوبنا الرهيفة، الواهنة شغفاً، ونسير في الطرقات!
كأنما البارحة هي اليوم، كأنما الصبي الذي يقرأ ولا يفهم، هو الذي يكتب الآن، كأنني أتذكر اللحظة، فهل كنت أقرأ آنذاك، قصيدة «البكاء بين يدي فاطمة»، تأسرني الدهشة بين المتعة والحيرة، وهل كان مطلعها:
يبارحك الأصدقاء، إذا بارحتك الأغاني الحزينة...
أو بارحتك الهموم
تبارحك الفرحة البِكُر، حين تبارح (أرواد)
يخمد ذاك البريق المشعشع في عين (فاطم)
تنكرك الطرقات، ويُنكرك الطيبون
إذا عَثَرتْ خطواتك في سيرها.
هل عثرت خطواتك في الصين يا صديقي؟ أم عثرت قبل ذلك بسنوات، حين أنكرتك الطرقات، وأنكرك الطيبون؟ لا أعرف متى عثرت، كل ما أعرفه وآمله بأن تعود إلينا كبيرا وجميلا، يغمرنا بياضك، ويؤنس وحشتنا رفيف قلبك الكبير!