مثل بنْدول الساعة، تارة لأقصى اليمين، وتارة لأقصى اليسار؛ تلوّح يدُ العاطفة بالنفس المهملة من الوقاية. لأن ديناميكية المشاعر تعمل على رفع الانفعالية للأقصى أو تهبط بها للسحيق، إذا لم تحظ بالدعم في الوقت المناسب والطمأنة اللاحقة للصدمة أو الحدث الفجائي.
وما بين الحزن والفرح الطبيعيين إلى الجزع وجنوح المشاعر صنّف محللو النفس الحزن إلى عاديّ ومعقد. وبينهما مشتركات محددة كضيق الصدر وسرعة الانفعال والغضب وطول التفكير واضطراب الكلام والشعور بعدم الجدوى، ومشتركات جسدية كالإجهاد والخمول والصداع وضعف الشهية واضطراب النوم وغير ذلك من الأعراض التي تعتبر طبيعية إذا لم يتعاهدها المصاب بإعادة إحياء الذكريات لتصبح ملازمة للشخص وهوية يُعرف بها.
في ستينات القرن الماضي وضع المحلل النفسي الدكتور روس مراحل متتابعة للحزن بادئة بالإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب إلى أن يصل لمرحلة الخلاص وهي (القبول)، وهذه ما يشار إليها عادة بـ «دورة الحزن». وهي دالة طبيعية وسمة من سمات البشر العاديين. لكن هناك من يتعثر في منتصف المرحلة ويبقى عالقاً ما بين الإنكار والاكتئاب سواء وفق إيديولوجيا أو تراثيات شعوبية تحتم على معتنقيها استثارة الحزن وإنعاش الذكريات في حفلات تأبينية غارقة في الدموع، أو حالات مرضية تتأبى على العلاج. حيث تجعل الفاجعة وأمر تقبُّل الخسارة قضية مستحيلة، لذلك يكافح الشخص بهدف أولي وهو الإيمان بأن الخسارة هي مجرد حدث. وتلعب المتغيرات المحيطة بالوفاة مثل التوقع، الطبيعية، وجود العنف، التناقض، درجة الارتباط وغيرها دوراً في وجود الحزن المعقد، الذي كثيرا ما يستمر لعدة سنوات أو العمر كله!
ولم تستنكر ثقافة القرآن الجزع عبثاً (إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ).. كما وضع لنا رسول الله (ص) إرثاً لمكافحة الهم الشديد والمعطل (الجزع) سواء بدفع الصدقة أو الأذكار: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل...). ووصف الجنة على لسان المؤمن بأنها دار أذهب الله عن سكانها الحزن: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} سورة فاطر .
لم تكن مكافحة الجزع في الثقافة القرآنية عبثا فمن أغرب الإحصاءات أن حصيلة المتوفين في بعض البلدان الغربية في الحرب العالمية الثانية مليونين بسبب الشدة النفسية، وأما في ساحة المعركة فقد مات ثلث مليون!. كما أنه ثبت طبياً أن الارتباط الوثيق بالذكريات الحزينة ينشط نوعاً من الخلايا العصبية مما يعطي الذكريات خصائص الإدمان.
تلك الخلايا ثبت أنها المنطقة التي تلعب دورا في العلاقات الاجتماعية، مثل الأخوة والأمومة مما يؤثر سلباً على علاقات المحزون الاجتماعية والأسرية، ويعقد مسألة الاندماج في المجتمع، لما قد يظهر عليه من درجات الانغلاق والإحباط وقد يدفعه للتصرفات الهوجاء. وكما أظهرت الاختبارات السريرية على مجموعة أشخاص استهلكهم الحزن أو المفجوعين المرتبطين بأفكار وذكريات كثيرة عن المتوفى وملاحظة تأثير ذكر الكلمات المحفزة ذات الصلة بموضوع بالحزن.
عند فحصهم بواسطة الرنين المغناطيسي وجد أنهم أصيبوا بالتهابات موضعية في الدماغ. بينما أولئك الذين يتجنبون مثل هذه الأفكار ولا يتأثرون عاطفياً بذكريات خسارتهم يظهر إجراء الرنين المغناطيسي الوظيفي قراءة طبيعية معتادة.
إن فداحة أبعاد الحزن المعقد أو (الجزع) النفسية والعقلية والاجتماعية في كونها إدمانية للشخص ومُعدية للآخرين. عدوى الحزن التي تنتقل سريعاً لمن يجاور هؤلاء. لهذا تسجل حالات إصابة جماعية بعد النكبات والحروب وفقد الأشخاص ذوي الشعبية.
وما «الندابة» أو «المعددة» - كمثال واحد وبسيط - في الموروث العربي، وهي امرأة تمتلك حنجرة قوية وصوتاً مؤثراً يستأجرها أهل المتوفى لرثائه بترديد مواويل شجية، تتنوع فيها المقامات الشعرية والموسيقية، ما هي إلا ناقلة لعدوى الحزن، وهو الأمر الذي نهى عنه الدين ويمجّه العقل ويخالف ضوابط السلامة النفسية.
حديثنا الأسبوع القادم الجزء الثاني (عدوى الفرح)