عند بناء معمل توليد كهرباء أو تحلية مياه أو تكرير نفط أو غاز، وكذلك معامل ومصانع البتروكيماويات والمعادن والألمونيوم سملتر، وبقية المشروعات المشابهة سواء كانت عملاقة أو كبيرة أو متوسطة أو صغيرة، فإنّ مجموع الإنفاقات على هذه المشروعات يصل إلى مئات المليارات سنويًا، تصرف على هندسة المشروعات وإدارتها وموادها ومعداتها وتنفيذها (مقاولات وعمالة). سأركز هنا على موضوع مهمل وبعيد عن الأنظار، وهو (حقوق الملكية الفكرية Intellectual Property) من تقنيات وتكنولوجيات وأفكار.
ففي توليد كهرباء (على سبيل المثال)، حجم المشروعات التي ستنفذها الشركة السعوديَّة للكهرباء خلال الأربع السنوات المقبلة ستصل إلى 247 مليار ريال، وجزء من هذه الأموال ستذهب إلى (جامعات) في مكان ما أو ما يشابهها من مراكز بحوث وتطوير مقابل حقوق ملكية فكرية لـ(أولاً) تقنيات وتكنولوجيات لمواد تستخدم في المعامل، و(ثانيًّا) برامج حاسوب هندسية وإدارة مشروعات وماليَّة وإدارية.
هذه الحقوق تدر دخلاً مستدامًا متى ما فازت بالمنافسة مع الحقوق المماثلة لها أو التنافسية.
ولكي نسهل الموضوع أكثر، لنفترض أن جامعاتنا أُعطيت الفرصة لتطوير برامج هندسية (مثل بريمافيرا) وبرامج محاسبة ومالية، وبرامج إدارة مشروعات، وغيرها من البرامج، فإنَّ تلك البرامج ستدر دخلاً على الجامعات المحليَّة (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) مع كل مشروع يُبنى في المملكة من قبل الشركات المقاولة للأعمال.
هذه البرامج يتم استخدامها في عدّة مشروعات ولعدّة سنوات مع التطوير المستمر للبرامج مع إمكانية تصدير هذه التكنولوجيات والاستفادة من دخلها المستدام. فلنعلم أننا ندفع لكل مشروع (حقوقًا فكرية) بشكل غير مباشر لبرامج هندسية وإدارة مشروعات ومحاسبية وغيرها، ندفع (الحقوق) على كلّ مشروع وقد تكون على نفس البرنامج!! أليس من الأجدر أن نكون نحن من طوّرها منذ زمن.
وكذلك لو افترضنا أن كليات الهندسة الميكانيكية والكهربائية والكيميائية في أيّ من جامعاتنا أُعطيت الفرصة لابتكار وتطوير تقنيات (مغيرات الحرارة heat exchangers) (مثلاً) فإنّ هذه التقنيات سيتم استخدامها في كثير من مشروعاتنا ومشروعات أخرى خارج المملكة متى ما اجتازت التنافسية، لسنوات عدّة.
أودُّ أن استدل بقصة نجاح عملتها الهند بدأت قبل 55 سنة، حيث كانت رؤية الحكومة الهندية أنها ستبني معامل ومصانع عملاقة وكبيرة وأحجام أخرى، فآثرت أن تستثمر في جميع المواد والتقنيات والتكنولوجيات (والتي تستخدم بتكرار)، فأسست شركة هندسية وإدارة مشروعات. هذه الشركة طوّرت برامجها بنفسها وتقنياتها بنفسها، فكانت العوائد على الاستثمار في السنوات الأولى، ثمَّ أصبحت هذه الاستثمارات تدر دخلاً على الهند بدلاً من استيرادها من الخارج بمصاريف إضافية.
الجدير بالذكر أن الهند أدخلت أموالاً من هذه الأعمال (تقنيات وتكنولوجيا وبرامج وخدمات إدارة مشروعات وأعمال هندسية) من الداخل والخارج، من السعوديَّة وأبوظبي والكويت وإيران والجزائر والدولة الباكستانية.
بمجرد أن نتذكَّر أن لدينا أكثر من 150 سنة خبرة جامعات (مجموع أعمار جامعة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فهد، حوالي 50 سنة لكلٍ منها)، بمجرد أن نتذكَّر ذلك، يجب أن نعي أن لدينا القدرة على تطوير كثير من هذه البرامج والتقنيات.
إذًا أين المشكلة؟ ولماذا آثرنا استيراد هذه الحقوق الفكرية، وندفع ثمن (ملكيتها) لجامعات أو شركات خارجية؟ ولمعرفة الجواب، علينا أن نعرف كيف عملت عليها بقية الدول.
في أمريكا مثلاً، تطلب الشركات من الجامعات تطوير تقنيات وتكنولوجيات محدَّدة مقابل ثمن ثابت وثمن آخر مع كل استخدام، فتبدأ الشركات استخدام هذه المنتجات في أعمالها وأعمال غيرها، فلنا أن نتخيل كم مرة (تكرار) استخدمت شركة بكتيل وشركة KBR برامج إدارة المشروعات والهندسة والمحاسبة والبقية، مؤكِّدًا أنها أدخلت عليهم أرباحًا كثيرة ولازالت وستبقى تدر.
في كلِّ مصنع ومعمل ومركز كمبيوتر، وإن كان عمره عشرين عامًا، تجدنا نشتري (جهازًا أو قطعة أو برنامجًا) بداخلها، ندفع قيمتها مقدمًا، وندفع سنويًّا مبالغ مقابل تطويرها وتحديثها وحقوقها الفكرية; وأبسط مثال مراكز الكمبيوتر ومعامل التكرير.
لدينا أساتذة بالجامعات أصابهم إحباط من عدم استغلال الوزارات والشركات المحليَّة لهم بشكل كبير، فلماذا لا تسهم الجامعات ومراكز البحوث والتطوير والدراسات التي بداخلها في المشروعات؟ وفي تخطيط وتطوير المدن، ومشروعات القطارات والمطارات، ومشروعات الكهرباء والتحلية والنفط. هؤلاء الأساتذة وطلبتهم ومراكزهم يستحقُّون الفرصة للمساهمة في خدمة وبناء وطنهم. المفترض (على سبيل المثال) أن تعطى الجامعات فرصة لإيجاد حلول لمشكلة تصريف مياه السيول في الأنفاق بما أن البلديات والمياه تعمل بمحاولات عشوائية.
قد لا يتسع المكان للتحدث عن الخدمات الهندسية وإدارة المشروعات نفسها، ولكنها تأتي بنفس القصة، لو استثمرنا بها منذ 30 عامًا، لكان العوائد على الاستثمارات وصلت لعشرات المرات، وهما مكملان لبعض، فالسؤال: كم دفعت المملكة ريالاً مقابل إدارة المشروعات والهندسة؟ وكم منها تَمَّ ترحيله للخارج؟ لا ننكر أن هناك أعمالاً ولكنها قليلة وصغيرة ومتفرِّقة مثل أعمال تعاونية بين أرامكو وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
أخيرًا، قد يجادل البعض أن الجامعات هي من ساهم في الخمول ولجوء الشركات والهيئات لشراء المنتجات من الخارج، وهذا الكلام صحيح جزئيًا، ولكن الشركات لم تكن الداعم لهذه الجامعات ولم تكن المحّفز وآثرت المزمار الأجنبي، فالأسماك تصاب بخمول في مياه الأحواض، فهل هناك من يغتنم الفرصة ويبدأ بتحريك المياه الراكدة.