مع قوة الإرادة والعزم في تكوين الملك عبد العزيز، حيث منحه الله خصالاً هي من أساسيات الزعامة لمن هيأه الله لقيادة أمة، والسير بها ولم شعثها من مسارب متعددة, إلى طريق واحد مستقيم تحصل به وحدتها، وتتلاءم معه الأجزاء المبعثرة من أطراف البلاد التي فتتتها الشحناء وباعدت بين ترابطها الحزازات..
فقد أدرك الملك عبد العزيز، بنظرته البعيدة، بعدما درس بتمعن وبصيرة، الأوضاع التي وصلت إليها البلاد، نتيجة التشاحن وحب الأثرة، وما تردت إليه حالة سكانها الاجتماعية والمعيشية، لأنه جزء منهم، يتألم مما يتألم منه كل فرد، ويحنو على كل فرد من أبناء الشعب، صغيرهم يعتبره ابناً، وكبيرهم بمثابة الأب، وأوسطهم أخا يشاركه الرأي والمشورة، فهو يقول: يعلم الله أن كل جارحة من جوارح الشعب تؤلمني، وكل شعرة منه يمسها أذى تؤذيني، وكذلك الشعب، فإنه يتألم إذا أصابني أي شيء، ولكن المصلحة العامة، تضطرني أن أقضي على من لا يصغي إلى النصح والإرشاد، وأن أتجرع ألم ذلك حفظاً لسلامة المجموع (الوجيز للزركلي 207).
ولذا كان الحب بين عبد العزيز وأبناء شعبه حباً راسخاً، لا تصنع فيه ولا مجاملة، يحبهم حباً دينياً، لأن مبدأ هذا الدين لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فكان يحب تجمعهم، ويحذرهم من التفرق في الدين، وتتبع الخلافات فيه، ويحب حمايتهم تحت مظلة العقيدة الصافية، وتحكيم شرع الله في كل شأن من شؤونهم.
وهم يحبونه، حيث اجتمعت القلوب على ذلك، وساندتها الأيدي والعواطف، لأنهم رأوا الصدق في القول والعمل، ولمسوا منه القدوة الصالحة، هو ومن تحت يده فيما يصلح النفس، ويصلح أحوال المجتمع، وعدم الاستبداد بالرأي.
حرص عبد العزيز، منذ بدأ مسيرته في البناء والتوحيد، أن يقدم مصلحة الشعب على مصلحته وأن يراعي طرق الخير للبلاد ليسلكها، وجعل المشورة في كل أمر يعن له من أوليات العمل آخذاً بمفهوم قول الشاعر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي نصيح أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقوادم
ولم يكن في أعماله نزق أو تهور، لأنه لا يريد في الأرض علواً، ولا في السلطة تكبرا بل هاجسه إعلاء كلمة الله، وإصلاح عقائد الأمة بتجديد الدعوة الدينية، حيث تبرز سمات شخصيته من كلماته كما قال عبد العزيز شرف وزميله في كتابهما: أنا لا أفتش ولا أسعى للرئاسة، ولا أريد علواً في الأرض ولا سعادة وإنما يهمني في الدرجة الأولى جعل كلمة الله هي العليا، ولا يهمني في هذا الشأن ما يعترضني في الطريق من المصاعب والمتاعب.
(عبد العزيز آل سعود وعبقرية الشخصية الإسلامية ص155).
ولذا كان يهتم بالعلماء ويحترمهم ويجتمع بهم، ويشاورهم في الأمور، وينظم اللقاءات بالرجال ذوي الرأي والمعرفة, ليعرض على هؤلاء وأولئك، ما يهمه من أمر، وما يريد أن يقدم عليه من أعمال.. ولا ينفذ أمراً إلا إذا اختمرت نتائجه، وبانت بالمداولات أبعاده، مقدماً مصلحة الدين، ووحدة الأمة في ظل شريعة الإسلام على كل أمر..
لذا كانت أعماله سلسلة منتظمة من المشاورات واللقاءات، فإذا عزم على أمر ورأى أن المصلحة فيه، توكل على الله غير آبه بالمثبطين، يدفعه لذلك حسن ثقته بربه، وتوكله عليه (فإذا عزمت فتوكل على الله).. ثم ثقته في نفسه لأنه بمداولة الرأي مع المخلصين المجربين ومع العلماء الفاهمين لمجريات الأمور يترجح لديه بحسه المرهف، فيه المصلحة فينحاز إلى ذلك الهاجس وما يدعو إليه من عمل..
ولذا نجد من أوليات أعماله، تشكيل مجلس الشورى، ووضع اختصاصات لعمله، لتنظيم ما يجب أن تأخذ به الدولة من أمور تسير أعمال الدولة الفتية، وذلك بعدما انضم الحجاز إلى عقد الوحدة الوطنية.
- ثم سار في التدرج التنظيمي فأوجد شعبة للمستشارين مرتبطة بديوانه الخاص، ولما رأى الحاجة تدعو إلى الامتداد للدول الخارجية بالعلاقات والمبادلات أمر بإيجاد السفراء والوزراء المفوضين، وتبادل مع الدول الأجنبية التمثيل الدبلوماسي.
- وكان أول مؤتمر عرف في تاريخ الدولة الجديدة، قد تم في الرياض، بعد استعادتها في هجوم صبيحة 5 شوال 1319هـ، واستسلام حامية قصر المصمك, حيث فرح به أهل الرياض، ورفع المنادي صوته عاليا ليسمع البعيد وينبه الغافل، ويبشر الصديق: بأن الملك لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود..
- فذهب البشير إلى والده الإمام عبد الرحمن في الكويت حيث رجع الإمام بأفراد الأسرة ومن بقي معه من الرجال في الكويت, فوصلوا سراعاً للرياض.
- وكان اللقاء الأول: الإمام عبد الرحمن وابنه ومعهما الوافدون من الرجال والمناصرون في قصر الإمارة الذي دخله الإمام عبد الرحمن، وبين يديه عبد العزيز وإخوته، وأبناء عمومته، وشيوخ القبائل، وعلية أهل الرياض وعلى رأسهم العلماء, فبدأ هذا الاجتماع الذي يعتبر مقدمة للمؤتمر بكلمة بليغة من الإمام عبد الرحمن مؤثرة فحمد الله وأثنى عليه ثناء هو له أهل، ونصح الأمة ونفسه بتقوى الله، وأوضح لهم جميعاً نظام الحكم، وما ثم غيركتاب الله وسنة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام ثم نصح عبد العزيز وأعوانه وأمرهم بتقوى الله في السر والعلن والعدل في كل شيء,, وبعد أن طلب كل منهما أن يتولى الحكم الآخر.. انفض الاجتماع الأول ولأول مؤتمر في مسيرة عبد العزيز - رحمه الله - لتوحيد البلاد.. على أن يجتمع الحاضرون مع غيرهم في المسجد الكبير بالرياض - جامع الإمام تركي- بعد أن يصلوا الجمعة.
- استأنف المؤتمرون اجتماعهم بعد صلاة الجمعة وفي بيت من بيوت الله مستعينين بالله بعد أداء العبادة، ليحسموا الأمر، حيث تصدى العلماء للموقف، واستقر رأيهم على تأييد الأب، خاصة وأنه أعلن نزوله عن الحكم، وأسند الأمر لابنه عبد العزيز، الذي زكاه الجميع في كل أمر فوافق عبد العزيز بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون والدي رقيباً عليّ في أعمالي وأقوالي، يرشدني ويردعني ويحاسبني عن كل خطأ.
الثاني: أن يقوّم كل فرد وبخاصة العلماء كل اعوجاج فيّ.
الثالث: أن يكون الجميع عوناً لي فيما يكون فيه صلاح الأمة وخيرها.
فقام الجميع وبايعوه، وكان يوماً مشهوداً في مؤتمر تقاربت فيه وجهات النظر ونوقشت الأمور وتنازل الإمام عبد الرحمن عن البيعة التي في عنقه من قبل لابنه عبد العزيز الذي أصبح قائداً لسير الأمة من ذلك اليوم سنة 1320هـ. (يراجع في هذا صقر الجزيرة بتوسع للعطار: 265 - 271).
- ويأتي مؤتمر آخر من المؤتمرات العديدة وذلك بعد أن دخل الملك عبد العزيز جدة بعد حصار دام قرابة السنة، فقد اجتمع أعيانها وأعيان مكة وأعيان المدينة ليبايعوا الملك عبد العزيز ملكاً على الحجاز, فأصبح لقبه بعد ذلك وبعد المداولة في هذا المؤتمر: جلالة ملك الحجاز، وسلطان نجد وملحقاتها، عوضاً عن المسمى السابق الذي حصل في عام 1340هـ، حيث سميت البلاد: سلطنة نجد وملحقاتها، وجعل لقبه: عظمة سلطان نجد وملحقاتها. (يراجع عبد العزيز آل سعود وعبقرية الشخصية الإسلامية د, عبد العزيز وزميله ص 246).
- ثم يأتي مؤتمر آخر عقب المؤتمر بعد فتح جدة عقد في الرياض استكمالاً في 25 رجب عام 1345هـ الموافق 1927/1/19م بايعه فيه أهل نجد ملكاً لنجد فأصبح اللقب: جلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها. (المصدر السابق).
- وفي ربيع الثاني سنة 1341هـ عقد المؤتمر المهم مع الانجليز في العقير حضره أعضاء من الجانبين ونشأ عنه أمور ذات أهمية هي:
1- الاعتراف بعبد العزيز سلطاناً على نجد وملحقاتها.
2- قبول مبدأ تخطيط خط للحدود على الأرض.
3- تثبيت القبائل التابعة لكل فريق حسبما ورد في معاهدة المحمرة 1340هـ التي أقر أغلب بنودها بعد بضعة أشهر الملك عبد العزيز.
4- تعيين خط الحدود بين نجد والعراق، ونجد والكويت.
5- تأسيس منطقتين محايدتين بين نجد والعراق ونجد والكويت.
6- تثبيت تبعية قريات الملح ووادي السرحان لنجد. (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز للزركلي 1: 280-294).
- واستكمل مؤتمر العقير واتفاقية المحمرة، باجتماعين عام 1344هـ في أثناء حصار جدة سمّيا: اتفاق بحرة، والثاني اتفاق جدة، صفت فيهما مشكلات القبائل في الحدود النجدية العراقية، وعينت الحدود بين نجد وشرقي الأردن.(السابق1: 294 - 295).
- وفي عام 1342هـ عقد مؤتمر في الكويت لغرض تصفية الخلافات بين الحدود المشتركة واشترط عبد العزيز: أن تكون المفاوضات فيه فردية يبحث فيها مندوبوه مع مندوبي كل حكومة بما يتعلق ببلادهم: فتم الاجتماع إلا أن بعضهم خرج عن شرط عبد العزيز فانفرط اجتماع المؤتمر على غير جدوى (السابق1: 325-326).
- المؤتمر العام ويسمونه: الجمعية العمومية في نجد بتاريخ 23 جمادى الأولى عام 1347هـ حيث اجتمع في الرياض ما لا يقل عن 800 رجل بين أمير وعالم ورئيس، وتناقشوا في أمور عديدة، وكانت لغة الصراحة والمداولة هي سمة المؤتمر، وتكلم الملك عبد العزيز في البداية راغباً أن يذكروا كل ما لديهم من ملاحظات وأنه مستعد للتنازل لمن يرتضونه بديلاً عنه: فقاطعوه بأصوات عالية: كلنا مصرون على آرائنا ولا نريد عنك بديلاً، وتناقش الجميع مع الملك عبد العزيز أموراً أجاب عليها جلالته بصراحته المعهودة وخرجوا مقتنعين وراضين، وقد ذكر تفاصيل هذا المؤتمر وأسماء الوفود والنقاش فيه عبد الله الزامل في كتابه أصدق البنود من ص 244-277. حيث جدد الجميع البيعة للملك عبد العزيز.
في 12 جمادى الأولى عام 1351هـ، الموافق 10/8/1932م اجتمع لفيف من كبار الوطنيين في الطائف، واتفقوا أن يرفقوا إلى الملك عبد العزيز قرارا وصفوه بالرغبة في تحويل اسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها إلى اسم المملكة العربية السعودية، ووضع نظام خاص بالحكم وتوارث العرش, فأجابه الملك عبد العزيز بصدور نظام توحيد المملكة وتسميتها المملكة العربية السعودية، ومن ثم بوضع نظام لتوارث العرش من بعده، فانعقد مجلس الوكلاء والشورى وأبرما قراراً في 16 محرم 1352هـ
الموافق 11/5/1933م يقضي بمبايعة كبير أبنائه الأمير سعود وليا للعهد، حيث اعتبر تاريخا ثابتا كشعار لتوحيد المملكة واجتماع الكلمة واستقرار الملك بأنظمته المتعددة وبذا ثبت دور البناء وتطوير البلد من ذلك التاريخ، إلى غير ذلك من مؤتمرات واجتماعات واكبت مسيرة التوحيد وجمع الشمل, ففي كل أمركانت الآية الكريمة أمام عيني جلالته وفي جميع أعماله: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الشورى: 38).