كثيرون هم أولئك الذين يبحثون عن الشهرة ويتجشمون عناء الانضمام إلى عالمها ولا يجدون في سبيل ذلك أدنى غضاضة بل لديهم الاستعداد التام لدفع الثمن حتى ولو كان ذلك الثمن باهظا بل حتى ولو كان هذا الثمن هو تزييف الحقيقة والتخلي عن المصداقية وبيع الضمير بثمن بخس طلباً لتحقيق مناطات العبارة الشهيرة «خالف تعرف».
أسباب الشهرة تتنوع وطرق الوصول إليها تتعدد لكن يبقى الأسلوب الأسهل والأسرع وخصوصا في المجتمعات السكونية المحافظة هو مخالفة السياق الطبيعي العام وإحداث قدر كبير من الإثارة وذلك عن طريق الخوض في القضايا والنصوص الدينية إما بالاعتراض عليها أو التشكيك بها أو التقليل من قيمتها وعدم مراعاة الملابسات التي تكتنفها إذ الخوض في مثل تلك القضايا حتى ولو كانت قضايا أكبر وبكثير من مقاييسك الذهنية، الخوض فيها وبمثل تلك الطريقة العبثية هو الذي ينقلك- كما نقل غيرك - وبومضة برق إلى عالم الأضواء بل ويجعلك مباشرة في قلب الحدث، هذا إن لم تكن أنت الحدث نفسه!
الخوض في الأشياء ذات الطابع الديني والشغب عليها أو الامتعاض من بعض تجلياتها، أو تسلق جدار النصوص -وهو جدار يبدو للبعض قصيرا وبشكل يغري بتسلقه!- ومعارضتها حتى ولو معارضة ساذجة سطحية وغير ذات معنى كل هذا من شأنه أن يمنحك قفزة إعلامية هائلة وسيرفع عدد متابعيك وبشكل خرافي على نحو يجعلك ملء السمع والبصر بعد أن مربك حين من الدهر لم تكن شيئا مذكورا!
تلك الطريقة الاستفزازية تتميز بأنها سهلة وليست ذات كلفة بل وهي في بعض السياقات لا تحتاج إلى كبير «علم» بل الشرط الأساس لنجاحها هو عدم العلم، فتغييب الشرط العلمي هنا هو مصدر الإثارة والفاعلية، المعادلة هنا مقلوبة فالطرح العلمي الواسع الأبعاد في هذا السياق يشكل عائقا من عوائق النجاح لأنه يتنافى تماما مع متطلبات الإثارة ولا ينسجم مع أدبيات التسويق الفج للذات.
افتعال الإثارة هنا أمر سهل، ومن يهوى الإثارة لا يلزم أن يكون باحثاً نهما أو ذا كفاءة علمية بارعة بل على العكس من ذلك فكلما كانت إمكانياتك العلمية أكثر ضمورا كلما كان ذلك أدعى لنجاحك كل ما تحتاجه هو فقط أن تكون مهووسا بالشهرة وأن تكون ذا طبيعة لجاجية غوغائية تقودك قسرا وبشكل أعمى إلى حشر أنفك وبطريقة خنفشارية في كل موضوع ديني - حتى ولو كنت لا تفقه أبجدياته فضلا عن تفاصيله - ومعاكسة التيار بنوعيه: النخبوي والجماهيري، وبالتالي تحقيق الإشباع لنوازعك الذاتية عبر مناكفة الخصوم ومناطحة الفرقاء.
كل ما كان الطرح هرائيا وموغلا في الجهل أكثر كل ما كان أدعى للإثارة أكثر، ولو تأملت في الواقع لوجدت ذلك ماثلا أمامك سواء في الإعلام التقليدي أو في وسائل التواصل الاجتماعي، فكثير- وليس أكثر!- ممن ظفروا بشيء من الشهرة سواء كان وجها تلفازيا أو كاتبا ورقيا أو مغردا تويتريا هم لم يحصلوا على ذلك نتيجة لطرح معرفي معمق واستثنائي في سياقه، وإنما بفعل الإمعان في تلك المشاغبات الغوغائية المستمرة التي منتهى غايتها افتعال الإثارة وإحداث الضجيج كشرط وصولي بالضرورة لكل من أراد أن يبسط له في صيته وينسأ له في أثره البالغ في العبثية منتهاه.
هناك من يستميت لكي يظل اسمه حاضرا حتى ولو كان هذا الحضور حضورا باهتا وعلى صعيد المناكفة فحسب، فالأهم هنا هو الحضور سواء كان في سياق مدح أو قدح بل حتى ولو كان هذا الحضور يكشف عن دمامة عقلية لافتة، بل حتى ولو كان هذا الحضور على طريقة ذلك الأعرابي الذي لم يجد مدخلا للانضمام إلى عالم المشاهير إلا أن يفرغ مثانته في بئر زمزم لكي يطير اسمه في الآفاق!
إن الأسلوب الأمثل في التعاطي مع مثل تلك الأصوات هو التعامل معها بقدر كبير من التجاهل والإهمال وقديما قيل: «أميتوا الباطل بعدم ذكره».