النساء شقائق الرجـّال، أعطاهن الإسلام مكانة عالية ورفع من قدرهن، والمرأة لها تعاليم في هذا الدين، منزلة لم تتحقق للمرأة في أيّ عقيدة غير الإسلام، ذلك أن المرأة في العصر الحاضر ممن قيل إنها أخذت حقوقاً هي لها، فلم تكن هذه الحقوق، وإنما الحقوق فيما يرفع من مكانتها، فما أعطيت إلا التهميش في العمل وفي المجتمعات المختلطة.
وهي ترغب في تعليمات تحفظ كرامتها، لأن في الإسلام حفظ المكانة تبين عند التطبيق حسب وظيفتها كأم عندما تحوجها الظروف للعمل، لأنها الحضن الأول الذي يدرج فيه الطفل كما قال شاعر مصري في عيد الأم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيـّب الأعراقِ
فهي تتشوق إلى تعاليم الإسلام، وما فيها من حفظ الكرامة، حسب تكوينها وتعطيها الكرامة في حقها: كأمّ تغرس في الطفل القيم ومحاسن الأخلاق، وما أم سليم الصحابية إلا مثال حتى إن كثيراً من نساء العالم تتطلع إلى مكانة الرعيل الأول من نساء الإسلام، في المكانة والعمل.. لأنهن أخذن تعاليم الإسلام قدوة، ومنهجه دراسة وتطبيقاً.
كما كانت عائشة أم المؤمنين وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان نساء الرعيل الأول يأخذن عنها العلم المتعلق بالمرأة، وحرصن على تطبيقه عملاً على أن نساء الغرب، أو الفاهمات المدركات لتعاليم الإسلام يتطلعن لمثل هذا الأدب القرآني: فهو أدب رفيع جاء في القرآن الكريم النساء الأول، وصالح لكل مكان وزمان، يقول سبحانه: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الآيات من سورة الأحزاب 32 -33)
وقد برز في المجتمع الإسلامي نساء بأعمالهن وفهمهن لما تنطوي عليه تعاليم الإسلام وحرصهن على حسن التطبيق.
والصحابية الجليلة، الرميصاء - أو الغميصاء- بنت ملحان بن خالد بن زيد الأنصارية، من بني النجار، واحدة من كرائم النساء ونموذج للمرأة المدركة الفاهمة.
ضربت نموذجاً في مواقف عديدة، استحقت بها تلك المنزلة، التي بشرها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيتني دخلت الجنة، فإذا برميصاء امرأة أبي طلحة وجاء في كتاب أعلام النساء: مجاهدة جليلة، ذات عقل ورأي أسلمت مع السابقين إلى الإسلام، وبايعت رسول الله، فغضب مالك بن النضر أبو أنس بن مالك غضباً شديداً من إسلامها، وقال لها: أصبوت؟ قالت: ما صبوت، ولكنني آمنت بهذا الرجل.
وقد كانت صادقة في عبارتها ما صبأت، لأن الصبوة في المفهوم عندهم ترك ما الإنسان عليه من دين إلى دين، أقل منه هذا هو مفهوم المشركين ذلك الوقت، لكنها أبانت أن الذي رجعت إليه هو الأصوب، ولذا قالت: ما صبوت، فقد وجدت ما هو أحسن من دينها، وأتبعت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ما جاء به هو الحق، وآمنت، بما جاء به من عند ربه عن يقين صادق، وبعقيدة ثابتة.
ومن هنا فقد حرصت على أن تلقن ابنها، وترضعه مع الإسلام العقيدة السليمة، وتشير إليه بقولها: قل لا إله إلا الله، قل أشهد أن محمد رسول الله، فقد ذاقت حلاوة الإيمان في قلبها وأغلى ما عند المرأة فلذة كبدها، فهي تريد أن ترسخ التربية السليمة فيه، منذ نعومة أظفاره، وتريد أن ينشأ نشأة صالحة خوفاً عليه من المزالق.
فكان مالك بن النضر يقول لها لا تفسدي عليّ ابني، لكنها بثبات المؤمنة وإدراك المسلمة الواعية تجيبه، بثقة واطمئنان بقولها: لا أفسده.. لإدراكها أن هذا فيه صلاحه، وفيه سعادته ثم خرج مالك يريد الشام، وقد كانت منيته حانت، فلقيه عدوّ فقتله، فلما بلغها قتله، قالت: لا أفطم أنساً حتى يدع الثدي.
ثم يمرّ بها موقف آخر تتصرف فيه، تصرفاً حكيماً هو موقف نبل من المرأة التي تريد أن تقدم مصلحة دينها على رغبات ومظاهر الحياة الدنيا، فكانت سبباً في إرشاد من تقدّم لخطبتها بمعرفة، والتبصر بدين الإسلام حيث انفتح صدرها لهذا الدين.
فقد ذكر ابن الأثير في كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة، أن أبا طلحة الأنصاري في موقف ثالث: فقد تقدّم إلى خطبتها، وهو مشرك، فقالت: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فلك مهري، ولا أسألك، فأسلم وتزوجها، وحسن إسلامه رضي الله عنه، وفي رواية عن أنس قال: إن أبا طلحة خطب أم سليم فقالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد ينبت من الأرض، وينجرها حبشي لبني فلان؟ قال: بلا. قالت: أفلا تستحي تعبد خشبة، إن أنت أسلمت فإني لا أريد منك الصداق غيره؟ قال: حتى أنظر في أمري، فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالت: يا أنس زوّج أبا طلحة: فتزوجها.
فهذه المرأة الصالحة، بما وهبها الله من فطنة وعلم، أخذته من تفقهها في دينها، وتطبيقها ما علمت على نفسها، واعتبار ذلك منهج سلوك، استعملت ذكاءها وعلمها في الدعوة إلى دين الله، وضحّتْ بأمر تعتز به المرأة وهو الصداق والرغبة في الرجل الذي ترتاح إليه النفس، في سبيل ما هو أهم وأنفع: ذلك هو العقيدة، وإخلاص العبادة لله وحده، لأنها عرفت المهمة، فصاحبة الدين تحفظ نفسها وتعين زوجها، وتربي أولادها وتسعد من حولها، فهو خير كله، وجوهرة تتحلى بها المرأة أغلى وأنفس من الجواهر وأنواع الحليّ والزينة، لأنـّه جمال في الروح، وجمال في الخلق.
ولئن كان جمالاً في المرأة لأنه دلالة على خلقها، فإنه جمال في الرجل، لأنه صاحب الدين وإن أحب المرأة أكرمها وإن أبغضها لم يهنها.
وموقف رابع من المواقف المشرفة التي تضربها أم سليم لما يجب أن تأخذها المرأة المسلمة في كل عصر ومصر قدوة؛ لأن الخصال الحميدة، تبقى آثارها راسخة، لا تزيدها الأيام إلا تمكيناً، فقد تمكنت تعاليم الإسلام لدى أم سليم احتساباً لما عند الله بسلاح قوة الإيمان، الذي تضعف النفس أمام قوة هذا السلاح، وهذا لا يثبت إلا بمغالبة الأساليب المثبطة، واليقين بحسن النية طمعاً فيما عند الله من الأجر العظيم والقدوة الحسنة.
فقد حدث أنس بن مالك قال مرض لأبي طلحة ولد من أم سليم، قال: فمات الصبي في المخدع، قال: فمات الصبي، فسجّه ثم قامت فهيأت لأبي طلحة إفطاره كما كانت تهيئ كل ليلة، فدخل أبو طلحة ثم قامت إلى ما تقوم إليه، فتهيأت لزوجها، وقال لها كيف الصبي، فأصاب أبو طلحة من أهله.
فلما كان السحر قالت: يا أبا طلحة ألم تر آل فلان، استعاروا عارية، فتمتعوا بها، فلما طُلبت منهم شق عليهم، قال: ما أنصفوا.
قالت: فإن ابنك كان عارية من الله عزوجل ، وإن الله تعالى قد قبضه.
فحمد الله واسترجع ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أصبح، فأخبره الخبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا طلحة، بارك لكما في ليلتكما) فحملت بعبدالله بن أبي طلحة. وفي لفظ: قالت لأهلها لا تخبروا أبا طلحة، بابنه، حتى أكون أنا أحدثه، قال ابن الأثير: لماّ تزوجت أبا طلحة بعد أن أسلم، وحسن إسلامه، ولدت له غلاماً مات صغيراً، وهو أبو عمير، وكان أبوه معجباً به، فأسف عليه، ثم ولدت له عبدالله بن أبي طلحة، وهو والد إسحاق، فبارك في إسحاق وإخوته، وكانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم.
ولئن كان مهرها أعظم مهر، فإن صبرها وقوة إيمانها عندما فقدت ابنها أعظم ما تتحلى به المرأة التي عُرف الأعم الأغلب منهن بالجزع، وقلة التحمل، في مثل هذا الموقف، الذي وقفته أم سليم.
وموقف خامس: في معركة أحد، حيث قال عنها أبو نعيم: الطاعنة بالخناجر في الوقائع والحروب، فقد سقت العطشى وداوت الجرحى، حدّث ابنها أنس بن مالك رضي الله عنهما، قال لما كان يوم أحد رأيت عائشة وأم سليم، وإنهما مشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم، وترجعان فتملآنها، فتفرغان في أفواه القوم.
وكانت رضي الله عنها شجاعة بقلبها، مقدمة بعملها، وبان ذلك في غزوة حنين، حيث شهدتها مع زوجها أبو طلحة، وأبليت بلاءً حسناً، فحزمت خنجرها على وسطها، وهي حامل يومئذ بعبدالله بن أبي طلحة، فقال أبو طلحة، يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقالت أم سليم: يا رسول أتخذ ذلك الخنجر إن دنا مني أحد من المشركين، بقرت به بطنه، وأقتل هؤلاء الذين يغرّون عنك، كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن).
وموقف سادس: عندما قدّمت ابنها ليخدمه، حباً منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت به إلى رسول الله وقالت: يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب، فخدم رسول الله تسع سنين.