يبدو الأمر وكأنه حكاية لا تقع إلا في بلد آخر لم يعش حراكًا ثوريًا وفترة انتقالية صعبة، حيث يواجه المسار الانتخابي التونسي مشكلات بالجملة زادتها حدة التعليقات والتجاذبات السياسيَّة التي أذكتها وسائل الإعلام المحليَّة بما استطاعت إليه سبيلاً من التصريحات والتصريحات المضادة من طرف قياديين متحزبين غطوا على رجال فكر وأعمال مستقلين لا تعوزهم الإمكانات المادِّية عن البروز في المراتب الأولى في هذا السباق الانتخابي المعقد.
فما كاد الرأي العام المحلي والنخبة السياسيَّة، تسلم أمرها إلى القضاء ليبت نهائيًّا في مسألة تزكيات المترشحين للانتخابات الرئاسية المزوَّرة، حتَّى انفجرت قنبلة أخرى من العيار الثقيل، تشير إلى أن بعضهم اكتشفوا تغييرات محدثة على قائمات تزكياتهم بعد نشرها من طرف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على الانترنت، وهو ما يرجّح وجود إخلالات في المنظومة الإعلاميَّة للهيئة خصوصًا بعد نشرها سابقًا لهويّات مسجلين في القائمة الانتخابية تبيّن أنهَّم في عداد الموتى منذ أعوام....
وكانت الهيئة اشترطت وفق نصوص القانون الانتخابي، توفير 10 تزكيات من نوَّاب بالمجلس التأسيسي أو 10 آلاف تزكية من مجموع الناخبين الذين حددت عددهم النهائي بأكثر من 5 آلاف مقترع، وأمام صعوبة الحصول على العشرة آلاف تزكية واستحالة توفير 10 تزكيات برلمانية، التجأ البعض إلى شركات تحتكم على قاعدة بيانات مدعمة بأرقام بطاقات الهوية لآلاف التونسيين، فاشتروها واعتمدوها في قائمة التزكيات المطلوبة... إلا أنَّه ثبت بعد نشر القائمات أن أغلبها مزور ومدلس باعتبار أن أصحاب التزكيات لا علم لهم بالأمر، بل ولم يفكروا أبدًا في تزكية مترشح للرئاسية على حساب آخر..
وكان بعض المترشحين فوجئوا بـ»تحول» أسماء عشرات المزكين لهم إلى قائمات منافسيهم بقدرة قادر، مما ينبئ بأن الأمور ستتخذ منحى آخر خلال الأيام القليلة القادمة.
ويعتقد المحللون السياسيون أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي ظلَّت طوال الأسابيع الماضية في وضع المدافع عن وجوده والمقيم لأدواره، ستعيش أوقاتًا صعبة في حال صحت المعلومات التي قدمتها بعض الأسماء التي عكست الهجوم واتهمت الهيئة بتعمَّد لخبطة التزكيات، بعد أن تولت الهيئة رفع أمر التزكيات المغشوشة إلى القضاء كحل نهائي للجدل القائم حول شبهات التدليس والفساد التي لا تزال تسيطر على أحاديث الشارع التونسي وتكاد تحوَّل دون إجراء الانتخابات في مواعيدها.
ويرى بعض المراقبين أن التوجُّه العام الذي ساد لأشهر تصريحات القائمين على السلطة بالبلاد وخبراء الأمن الشامل والمرتكز على ضرورة تأمين المسار الانتخابي ضد تهديدات الجماعات المسلحة التي ما فتئت تنذر بتنفيذ أعمال إرهابية تحول دون إجراء الانتخابات في موعدها، لم تقرأ حسابا لمثل هذه المنزلقات التي تعد أشد خطرًا من غول الإرهاب الذي أضحى الخبز اليومي للتونسيين فيما تضاعفت حيرة المقترعين وازدادت ميولاتهم في اتجاه العزوف عن التصويت يوم الاقتراع. فبعد أن نجحت الوحدات الأمنيَّة والعسكرية في تضييق الخناق على أوكار الإرهابيين المتحصنين بالمرتفعات الشماليَّة وعلى الحدود مع الجارة الجزائر بفضل التنسيق المحكم بين البلدين، وأثر سلسلة الإيقافات في صفوف الجماعات التي تتولى تمويل العناصر التكفيرية بالسلاح والمؤونة الغذائيَّة، وبعد قطع علاقة المهربين الذين تعوَّدوا امداد المسلحين باحتياجاتهم اليومية، ذهب في ظن الجميع أن المسار الانتخابي أصبح في شبه مأمن من كل الأخطار التي تتهدده، وإن نسبيًّا على الأقل، بما يسمح بالاطمئنان على سير الانتخابات وتحقيق حلم التونسيين بتجاوز المرحلة الانتقالية الحرجة والمرور إلى مرحلة الاستقرار السياسي وما يتبعه من توفر الأمن وانتعاش الاقتصاد.... إلا أن معوقات أخرى غير منتظرة طفت على سطح الأحداث مفادها الجدل الدائر حول شبهة التزكيات التي قال عنها المحلل السياسي والإعلامي حمادي معمري بـ»أنها نشطت ذاكرة المواطن التونسي الفارِّ بجلده من حقبة التزوير والنتائج التي تعلنها وزارة الداخليَّة وتتجاوز الثماني والتسعين بالمئة، فكلمة تزوير نشّطت الذاكرة التونسية، وجعلته يُعمل فكره وعقله في الراهن السياسي المشوب إلى حد كبير بلوثة التزوير والمصادرة والمنع وهي عناوين الحقبة الاستبدادية». وأضاف: «لم تكن هذه الشبهة خارجة عن السياق السياسي العام في تونس التي لم تتخلص بعد من شوائب التلاعب ومصادرة الرأي التي تربّى عليها جيل سياسي برمته وساءه أن يترك سدة الحكم والحال أنه لم تحدث ثورة كما سُوِّق لها.. فعاد أدراجه وشغّل شبكاته العميقة في المجتمع وعاد إلى المشهد السياسي لكن الآن من باب التعددية والتنافس النزيه والتعويل على إرادة الشعب التي صادروها لسنوات.