أعود بعد هذه التهويمات المحتدمة إلى [العقاد] وعشيقته التي خانته، ولم تصدقه القول، وكانت خيانتُها سبباً في تفجير مواهبه: شعراً، وسرداً:- [ورب ضارة نافعة]. فالمواهب في الغالب لا تفجرها إلا الأزمات الضاغطة.
لقد عرفت الحدث في مطلع شبابي، وراق لي تقصيه، فالشباب يحبون أحاديث العشق. أما اليوم فإنني أقارب الحدث برؤية معرفية خالصة، لا تشوبها الرغبات.
حديثي عن العقاد ليس تبريراً لما انتابه من شطحات، ولكنه الرغبة في التفريق بين الفكر الإسلامي السليم، والسلوك البشري غير السّوي.
ومقترفاته المبكرة ربما تكون من صبوات الشباب. ولأن الشباب مظنَّة الصبوات. فقد جاء في الحديث [إن الله يحب الشاب الذي ليست له صبوة]. وفي حديث آخر، إشارة إلى الشاب الذي نشأ في طاعة الله، إذ كان من السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله.
تَعَرَّف العقاد على [سارة] حين مر بمسكن صديق له بالصدفة، اعتاد أن يستريح عنده، كلما عاد من بعض غدواته، وكان بيت صديقه يُدَارُ بواسطة مقيمة فرنسية. فلما لم يجده، لمح معها فتاة جميلة، رَغَّبَتْه بالحديث مع الفرنسية، ليتأمَّل جمال تلك الفتاة اللَّعُوب، التي لم تجد حرجاً من الدخول معه في الحديث. ومن ساعته بدأ إعجابه بها، مما اضطره إلى تكرير زيارته للمرأة الفرنسية، حتى قويت علاقته بالفتاة.
وقد علم من حديثها، أنها لم تكن موفقة في حياتها الزوجية. حتى لقد صارحته بشطحاتها، بحثاً عن حياة تنسيها مآسيها. وحبه الطاغي لها حمله على التماس العذر لها. معتقداً أنها ستكون وفية معه، وتمكن حبه لها من قلبه.
وليس ببعيد أن يكون تزوجها زواجاً عرفياً، غير مُعْلن، وأثناء علاقته معها، نظم فيها قصائد غزل جميلة، وسرعان ما راودته الشكوك في صِدْقها، ووفائِها.
ولما تأكد من خيانتها له، بدأت العاصفة، ولكنها لم تكن عاصفةً عقيماً، بل كانت من اللواقح، بحيث فجرت مواهبه، ومعارفه. فأبدع الشعر، والسرد، ودبج الدراسات العميقة، مثل [المرأة في القرآن]، و[المرأة ذلك اللغز]، إضافة إلى روايته الوحيدة [سارّة].
والعقاد المفعم بآراء الفلاسفة، وعلماء النفس، حمله شكه على محاكمتها من خلال خلفيته الفكرية، والنفسية. حتى لقد سَعَى لاستحضار كتب تبحث في الجنس، والأخلاق، وطبيعة المرأة.
وروايته [سارّة] مليئة بالمستخلصات الفلسفية، والنفسية. يقول في تلك الرواية:- [ألوف السنين قد غبرت على المرأة، وهي تخاف، وتحتال، وتراوغ، وترائي، وتلعب بمواطن الضعف في الرجل].
وكان اسمه فيها [همام] يقول عن نفسه: [فصحا همام من حلمه الذي كان سادراً فيه، وبدأ يراقب حركاتها، وسكناتها، مستعيناً بصديق له كان موضع ثقته] ولما انكشف أمرها، وابتعد عنها، أبدع أروع قصائده [يوم الظنون] التي يقول فيها:
يَوْمَ الشكوكِ صَدَعْتُ فِيك تَجَلُّدي
وَحَمَلتُ فِيك الضَّيْم مَغْلول اليد
وبكيتُ كالطفلِ الذَّليل أنا الذي
مالان من صعب الحوادث مِقْودي
وهي قصيدة تشبه بتدفق مشاعرها، وصدق انفعالها قصيدة [المتنبي] [عيد بأية حال عدت ياعيد] لأن كلتا القصيدتين تعبيرٌ صادقٌ عن صدمة حقيقية، ومعاناة شعورية.
ومن جميل إبداعاته قوله مناكفاً لها، بقصيدة [الْحَانُ والمَسْجِدُ] وهذا العنوان من العتبات الواضحة الدلالة:
تَرِيْدين أَنْ أَرْضَى بِكِ اليومَ للْهوى
وارْتَادُ فيك اللهوَ بعد التعبدِ
والقاكِ جَسْماً مُسْتَباحاً وَطَالما
لقيتُك جَمَّ الخوفِ جَمَّ الترددِ
إلى أن قال:
جمالك سُمٌ في الضُّلوعِ وعثرةٌ
تَرُدُّ مِهاد الصَّفْو غَيْر مُمَهَّد
ومن هول الصَّدْمَة طلب من فنان تشكيلي، أن يرسم له طبقاً من عسل، مغموساً فيه ذباب، ووضعه على مكتبه.
وبعد [سارّة] مر بحب آخر دون ذلك الحب العاصف، وكانت محبوبته الأخيرة فتاةً سمراء، يسميها في قصائده [بُنَيَّة] يقول فيها:
بنية ما صَنَعْتِ جَزَاك رَبِّي
بِحُبٍّ في مَشِيبك مِثْل حُبِّي
ولعل ديوانه [أعاصير مغرب] يجسد هذا الحب الأخير، الذي لم يدم طويلاً. وبعد وفاته تتبع ابن أخيه [عامر العقاد] أسراره الخاصة، وكشف عنها في كتابين [غراميات العقاد] و[المرأة في حياة العقاد] وهي متاجرة رخيصة بشهرته، وجناية لا تغتفر بحق عملاق من عمالقة العصر.
خلاصة القول، إن عمالقة الفكر، والأدب يَمُرُّون في حياتهم بمحطات لا تروق للورعين. والتخلي عن إرثهم بسبب تلك الهنات غير السوية إخلال بالبنية الفكرية التي هم جزء منها.
أن تختلف مع غيرك في سلوكه، أو في فكره، فهذا لا يعني أن تخرجه من حياتك، ولا أن تمارس الإطلاقات المعممة في الأحكام. فالناقد، والمفكر ليسا فقيهي أحكام. والمنهج السليم أن تأخذ ما يوافق ثوابتك، وأن تُعرض عمّا سواها، وليس هناك ما يمنع من التحذير المتوازن، والحكم المنصف، مع الاعتراف بالحق. على حد [صَدَقك وهو كذوب] وعلى حد [آمن لسانه، وكفر قلبه]. والشنآن لا يحول دون العدل مع الخصم.
لقد شطح [أركون] و[حنفي] و[بدوي] و[العروي] و[جعيط] و[الجابري] و[أبو زيد] و[زكي محمود] و[جَبْرا] وآخرون، لا أحصيهم عدداً، وكان شطح بعضهم في مجال الفكر.
وليس في مقدور المهتم بالفكر المعاصر أن يستغني عن أحد منهم، ذلك أنهم استوعبوا الفلسفة والفكر المعاصرين، وألموا بالفكر القديم، واستطاعوا الوصول إلى أدق تفاصيل الفلاسفة، عبر عصور الحضارة الإنسانية.
وقدرنا العصيب أن يكون هؤلاء كُوَّتُنا التي نطل منها على الفكر الحديث، إذ بدون ما تركوه من مؤلفات تحوي آراءهم، ومواقفهم، لا يستطيع المتابع استكمال متطلبات معارفه الفكرية والفلسفية.
والعلماء الذين حذروا من بعض الكتب، وهي بالمئات، لا شك أنهم أخذوا أحسن ما فيها.
وكم من عالم ضَعُفَ أمام هواه، أو أمام شهوته، فحاد عن جادة الصواب، ولكنه يظل فيما سوى ذلك من الأعلام.
وإذا كان لكل إنسان لحظات ضعف أمام الشهوات، والأهواء، والغرائز، فإن للمفكرين لحظات غفلة، تتعثر فيها ألسنتهم، وأقلامهم.
فـ[محمد الغزالي] ثار في وجه الحديث النبوي، ونال من المحدثين، وضجت المشاهد في التصدي له، علماً أنه ترك إرثاً لا يُسْتغْنى به، ولا يُسْتغنى عنه.
ومثله[عبدالصبور شاهين] الذي تصور أُمَماً قبل [آدم] عليه السلام، كُلِّفَتْ، فأفسدت في الأرض، فاستبدلها الله بـ[آدم] وذريته. جاء ذلك في كتابه [أبونا آدم].
ولكل عالم، ومفكر عثرته التي لا يجوز اسقاطه بسببها، وفي الوقت نفسه لا يجوز استبعادها عند تقويمه.
بقي أن نفرق بين فساد المبادئ، والأخطاء العارضة. والعارفون كالصيارف، يميزون بين الحق والباطل، ويفرقون بين فساد المبدأ، وخطأ التطبيق.