ذكَّرني اعتبار هيئة مكافحة الفساد (نزاهة) أحاديث الموظفين أثناء العمل فساداً إدارياً، حكاية أحد الأصدقاء مع مديره الذي كان يترصد الموظفين في زيارات مفاجئة في مكاتبهم، للاطمئنان بأنهم لا يقترفون قراءة الصحف أثناء وقت الدوام، بحجة أن وقت العمل يجب تخصيصه للعمل فقط، وغيره من المدراء في القطاع الحكومي الذين حاربوا دخول الإنترنت في بداياته إلى جهاتهم، واستبسل البعض في عدم وجود خدمة الواي فاي كي لا ينشغل موظفوهم بأحاديث الواتساب، ومواقع التواصل الاجتماعي!
ورغم أن (نزاهة) قامت مشكورة، خلال الشهر الماضي، بتوزيع لافتات كبيرة على كثير من الجهات الحكومية، تحث فيها الموظف وتحذره من الوقوع في كسب المال غير المشروع، إلا أن المبالغة باعتبار الحديث بين الموظفين جزءاً من الفساد الإداري، يجعلني أشك في فهم هؤلاء لمعنى الإدارة وعوامل نجاحها، فمن بين أهم أسباب ارتفاع معدلات الإنجاز في العمل تقدير العلاقات الإنسانية لدى الموظفين، ومنحها الاهتمام الكافي من قبل مدير الإدارة، لأن هؤلاء بشر، لديهم عوامل استقرار وراحة عائلية تنعكس على أدائهم الوظيفي!
على القائمين على وضع خطط نزاهة إدراك أن كمية العمل الحكومي في معظم الجهات الحكومية لا تماثل كميته لدى شركات القطاع الخاص، وبالتالي فمن المتوقع أن يتوفر لدى الموظف وقت فراغ يصل إلى ساعة أو أكثر، من حقه أن يقضيه في قراءة الصحف، أو تجاذب أطراف الحديث مع زملائه، لذلك فإن (الثرثرة) جزء من طبيعة الإنسان، وهي طبيعية أن تحدث في أوقات الفراغ!
كان على هؤلاء البحث عن الفساد الحقيقي، ممثلا في الفساد المالي، الذي تتكسب منه جنسيات محددة مع موظفين مواطنين ضعاف نفوس! على هؤلاء مراقبة ترسية المشروعات، وتداولها من الباطن بين المقاولين والمتعهدين، ومن ثم تعثرها! على هؤلاء أيضاً النظر في فوضى استحقاقات الوافدين إلى بلادنا، ومقارنة ما يستحقونه وفق عقودهم التي قدموا إلى المملكة على أساسها، والأرقام الفلكية من تحويلاتهم إلى الخارج، التي تصل 148 مليار دولار، سواء بسبب وجود العمالة غير النظامية، أو بسبب طرق الكسب غير المشروعة!
على هؤلاء المشاركة مع غيرهم من الجهات الرقابية، والجهات المختصة، للقضاء على الأمراض التي دمّرت المجتمع منذ عقود، كالتستر أو التوظيف الوهمي، بدلا من مراقبة أنفاس الموظفين وأحاديثهم الجانبية، وأخشى أن تكتشف (نزاهة) فيما بعد أن الضحك أثناء وقت العمل نوع من أنواع الفساد الإداري!
يا سادة يا كرام، أنتم في جهاز مهم، تنتظر منه القيادة قبل المواطنين، تنظيف البلاد بمختلف أجهزتها وتعاملاتها من كل أنواع الفساد التي من شأنها الإضرار بالاقتصاد الوطني، أو تعطيل مختلف فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أنتم مؤتمنون على مقدرات هذا الوطن وثرواته، فلا يذهب بكم الاعتقاد، بل والجزم، أن ثرثرة موظفين داخل غرفة هي من الفساد الذي يجب القضاء عليه، لأن الحلم والأمل بمنجزكم في (نزاهة) أكبر من ذلك بكثير!