بعد أن باءت عصابات الإرهاب بالفشل فى محاربة مؤسسات الدولة - من أجهزة أمنية ومراكز اقتصاديه ومحاولات اغتيال - بفضل كفاءة الجهود الأمنية والموقف الشعبي الرافض لأهوائهم وجرائمهم، عمدوا إلى وسائل أخرى لعلها تخدم أغراضهم،
فكان أن أحدثوا تلك الجريمة البشعة بإطلاق النار عشوائياً على مجموعة من المواطنين الأبرياء فى حسينية بقرية الدالوه بمحافظة الأحساء، فصرعوا ستة أشخاص بينهم طفل وجرحوا آخرين، ثم ولّوا الأدبار متفرقين على عدة اتجاهات. لكن شبكة الرقابة الأمنية المُحكمه اصطادتهم واحداً بعد الآخر، وقتلت نفراً منهم. واستشهد أثناء الملاحقة اثنان من أفراد الأمن. ومع أن التحقيق لا يزال يجري مع من تمّ القبض عليهم، فإنه اتضح الآن أن بعضهم كان ممن شاركوا سابقاً فى جرائم إرهابية من ذلك النوع الذى تمارسه عصابات التكفيريين كالقاعدة وغيرها. استهداف المواطنين الآمنين العزّل المنتمين للمذهب الشيعي كان مقصوداً لذاته لإشعال فتنة طائفية لم تعهدها بلادنا من قبل، يقتل فيها أبناء الشعب الواحد بعضهم بعضا. الهدف الايديولوجي الأساسي واحد، الذى تغير هو السلاح. فقد فشل سلاح المواجهة المباشرة مع مؤسسات الدولة، فتحولوا إلى سلاح آخر هو الفتنة الطائفية؛ سلاح يستغل فيه الإرهابيون أي فرصة مواتية للشحن الطائفي أو يدبرون حادثة تثير غضب الطائفة، فتبدأ فتنة يحارب فيها الآخرون نيابة عنهم، وأما هم فيستمرون فى إيقاد الفتنة. وقد أثبتت الوقائع التاريخية والأحداث التى وقعت فى بلدان كثيرة أن الفتن الطائفية والحروب الأهلية تسبقها شرارة أو وميض، إن غفلت عنه عين الانتباه والترصد تحوّل إلى نار حارقة. لعلنا نذكر ما سجله القائد الأموي والشاعر نصر بن سيّار عندما قويت دعوة العباسيين فى خراسان فقال مخاطباً آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد:
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى
وإن الشرّ مبدؤه كلام
فإن لم تطفئوها تَجْن حرباً
مشمّرة يشيب لها الغلام
وفى شأن حادثة الأحساء فإن أنفاس الفتنة أخمدت - حتى قبل أن تومض - بسبب ردّات الفعل السريعة والقوية التي صدرت من الأجهزة الأمنية ثم من هيئة كبار العلماء ممثّلة بشخص رئيسها سماحة المفتي العام للمملكة - وهي أعلى هيئة دينية فى المملكة - ثم توالت من رجال الدين والفكر والإعلام، مُجْمِعين على استنكار هذه الجريمة والتبرؤ منها. وزاد من قوة رد الفعل تعميم وزارة الشؤون الإسلامية على خطباء الجمعه بأن يشرحوا موقف الدين الصحيح من مشعلي الفتن وقتلة الأبرياء، وهو ما يعني توعية أكثر من خمسة ملايين مصلٍّ فى جوامع المملكة. أما ذروة سنام رد الفعل الوطني فكان ذلك التلاحم المشهود بين أهالي الأحساء - سنة وشيعة - في التعبير عن إدانتهم للجريمة وتأكيدهم على أنها لن تنال شيئاً من عرى الأخوة والتضامن التي تربط بينهم. على أنه مهما كان رد الفعل قوياً ومؤثراً فإنه يأتي عقب الفعل، ولا يغني مطلقاً عن استباق الأفعال الإجرامية من خلال تحصين المجتمع دينياً وفكرياً وسلوكياً لجعله غير قابل للتسليم بأفكار وتأويلات عصابات إرهابية - داخل وخارج المملكه - تتدثر بغطاء الدين، فتحجب عن أنظار عامة المجتمع (أو بعض شرائحه) مآربها الحقيقية المتمثلة فى استلاب السلطة وإخضاع المجتمع لحكمها المستبد ورؤيتها الأحادية، وفى النهايه حشر الناس فى قالب واحد مصبوب مسبقاً ومشكّل حسب أهوائها. وجميع المنظمات الإرهابية - سواء منها السنية أو الشيعية فى منطقتنا - مهما اختلفت تنظيماتها أو انتماءاتها أو توجهاتها السياسية والأيديولوجيه، تشترك فى السعي لتحقيق مثل هذه المآرب باستراتيجية متماثلة. فهي تتخذ المذهب الديني أو الطائفي واجهة ومبرراً للتطرف فى الكراهية والعدوانيه، لأن هذا التطرف هو وقود الفتنة الذي من خلاله يستمرون فى إشعالها، لكي يختل الأمن ويشعر الناس بالخوف وعدم الأمان وتضعف هيبة الدولة وسلطتها، فتنشأ الظروف التى تهيّؤ لهم تحقيق مآربهم تلك. ولعل حادثة الدالوه من جهه، وقبلها العواميه من جهة أخرى، تبين لنا أن ما حدث ولا يزال يحدث فى بلدان عربية حولنا من نشاط إرهابي لن يسكت عنا أو يقف عند حدودنا، إن نحن سكتنا عنه. وقبل ذلك فإن الملك الحكيم خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - وجه كلمة إلى العلماء بتاريخ 5-10-1435هـ طلب منهم فيها عدم الصمت على جرائم الإرهابيين وما تقود إليه من فتن، وأن هذا واجبهم ديناً ودنياوبالفعل فإن العلماء وخطباء المساجد وأيضاً المعلمين ورجال الفكر والإعلام هم المنوط بهم تحصين المجتمع وتنوير العقول ضد أخطار التطرف والإرهاب وزرع الكراهيه، والعمل على نزع الغطاء الديني عن جرائم الإرهاب والتحريض عليها والتعاطف معها، وإبطال حججهم وتأويلاتهم الفاسدة التى يزيّفون بها النصوص الشرعية، وتبيان حقيقة الشرع المطهر، حتى لا ينخدع المسلمون بادعاءاتهم. إن قيام العلماء والمفكرين بهذا الواجب لا يخدم توعية المجتمع المسلم وتحصينه فقط، بل أيضاً إظهار الحقائق الشرعيه لغير المسلمين. فبعض المفكرين منهم (مثل الكاتب الهولندي ليون دى وينتر) انخدعوا مثلاً بتأويلات (داعش) للنصوص الشرعية وادّعاء المنتمين لها أنهم الورثة الحقيقيون للنبي محمد (!)، وتعجب ذلك الكاتب من صمت المسلمين وعدم احتجاجهم، وفسّر هذا الصمت بأنه إقرار ضمني بتطابق تأويلات أولئك الإرهابيين مع نصوص الشريعة، أو أنه عجز عن دحض تلك التأويلات.
لا بد إذن من جهد فكري مكثف ومستمر لتبيان أن الدين الإسلامي دين سلام وأخوّه، وأنه شرع الله المطهر الذى لا تلوثه أباطيل المحرضين والإرهابيين. مثل هذا الجهد ضروري للدفاع عن الوطن كما هو دفاع عن الدين القويم.