لو اعتبرنا الجهات المتعددة التي تقدم الخدمات الصحية في المملكة مكوّنات نظام صحيّ واحد، فإنها تبقى مع ذلك -مثل العقد المنفرطة حبّاته- في حال من انفصال بعضها عن بعض من حيث المرجعية القانونية وطريقة العمل ومستوى الرعاية الطبية وأحقيّة الاستخدام.
فهناك -كما هو معروف- واسطة العقد وزارة الصحة، والخدمات الطبية العسكرية في الدفاع والحرس الوطني والداخلية، والمؤسسات الصحية الحكومية، والمستشفيات الجامعية، والقطاع الصحي الخاص. ولا يغيّر من هذه الحال عضويّة هذه الجهات في المجلس الصحي السعودي (مجلس الخدمات الصحية سابقاً)؛ فهو مجلس تنسيقي، يتخاطب أعضاؤه وينسقون على مستوى القيادات. أما على مستوى المرافق الصحية -وهي مكان تقديم الخدمة الصحية للمريض- فإن المريض قد يراجع أكثر من مرفق صحي لأسباب مختلفة؛ إما بإحالة من مركز صحي إلى مستشفي، أو من مستشفي عام إلى تخصصي، أو من مستشفي بجهة صحية إلى مستشفي بجهة صحية أخرى؛ أو قد يذهب المريض مباشرةً إلى مستشفي حكومي من غير إحالة ولكن بواسطة.
وقد يراجع المريض استشارياً في مجمّع أو مستشفي خاص-علماً أن الطبيب في القطاع الخاص ليس مخولاً بالإحالة للقطاع الحكومي- ولكن إذا استاء المريض منه ذهب بنفسه لمستشفي حكومي أو العكس. في أغلب هذه الحالات ينفرد المريض بملاحقة مواعيده، ويفتح له في كل مرفق صحي ملف جديد؛ أيّ يكون له أكثر من ملف لنفس الحالة المرضية. ويترتب على ذلك تكرار الإجراءات وازدواجية الخدمة وإهدار الوقت والموارد في الجهات الصحية، والشعور بعدم الاطمئنان عند المريض، خاصة عند اختلاف الرأي أو التشخيص الطبي، أو عندما يرى أنه في كل مراجعه لا يُعامَل بكامل شخصه كإنسان واحد، بل يُنظر للعضو المريض فحسب.. وبعد أن ينتهي علاجه ينقطع الخيط، فلا يدرى أين يتجه. فالجهة التي عالجته وسجلت كل شيء في ملفه، لا ترى نفسها مسؤولة عن توجيهه إلى أين يذهب، إلا إذا كان ذلك مطلوباً منها، أو أنها تطلب مراجعة المريض لها لمتابعة علاجه. ولا يغيّر من ذلك كثيراً تطبيق نظام الملف الصحي الإلكتروني الموحد للمريض (إن تمّ تطبيق ما توصّل إليه المجلس سابقاً) لأنه يفيد مقدمي الخدمات الصحية بالحدّ من الازدواجية والتكرار وهدر الوقت والموارد.. وقد يفيد المريض من ناحية اختصار وسرعة الإجراءات، ولكن الشخصية الإنسانية للمريض تتراجع للخلف، وشمولية الخدمة الصحية المقدمة له تتجزّأ.
هناك إذن خيط مفقود يربط (أو يَنْظِم) تلك المراجعات وينسق بين مقدمي الخدمة الذين يقابلهم المريض أو يحال إليهم ويضمن استمرارية الرعاية الطبية ويحافظ على الشخصية الإنسانية للمريض؛ وأكثر ما يكون ذلك ضرورياً في الأمراض التي تتطلب عناية طويلة، ومراجعة عدة مرافق وتخصصات طبية. ولا يمكن أن يقوم بهذا الدور سوى طبيب الرعاية الأولية الذي يمثل نقطة الدخول الأولى لمختلف مستويات الرعاية الطبية في أي نظام صحي.. وسواءً كان الطبيب ممارساً عاماً أو متخصصاً في طب الأسرة، فإنه يجب أن يكون ذا خبرة وعلم يؤهلانه للقيام بهذا الدور. إنه يصبح بالنسبة للمريض الطبيب الشخصي الذي يلجأ إليه إذا ألمّت به مشكلة صحية ويضع فيه ثقته، فيساعده منذ البداية في أخذ الاتجاه الصحيح، ويواصل معه مسيرته الصحية، ويقرر إحالته إذا احتاج لطبيب أو فحوص نوعيه أو التنويم في المستشفي أو التأهيل الطبي، وبعد انتهاء الفحص أو العلاج عند الجهة المحال إليها يتلقى تغذية عكسية تتمثل في تقرير مفصل عن النتائج والتوصيات، ليقوم بعد ذلك بالمتابعة والتنسيق لضمان استكمال ما يلزم للمريض.
وفي كثير من الدول (ألمانيا، بريطانيا، كندا، أستراليا - على سبيل المثال) يقوم طبيب الرعاية الأولية (بمختلف المسميات: (طبيب المنزل - طبيب العائلة أو الأسرة - الممارس العام) بدور الطبيب الأول والمنسق والموجّه للمريض - فهو محور حركة المريض في دوّامة النظام الصحي. ولا يتغير هذا الدور سواءً كان هذا الطبيب يعمل في مرفق حكومي أو في مرفق صحي خاص أو مستقلاًّ بعيادة خاصة، وسواءً كان يتقاضى راتباً ثابتاً من جهة عمله، أو يتقاضى مبالغ تدفعها الحكومة وشركة تأمين مقابل عدد المرضى المسجلين عنده أو مقابل ما يقدمه للمريض من خدمات؛ ذلك أن الهدف واحد في جميع الحالات، وهو العناية القصوى بالمريض، أما التكلفة فيدفعها طرف ثالث من ميزانية حكومية مخصصة لذلك أو شركة تأمين.
هل يمكن تطبيق مثل هذا النظام عندنا؟..
أجل يمكن ذلك عند توافر المقومات التالية:
- أولاً: إزالة القواطع الفاصلة بين مكونات النظام الصحي -لا سيّما بين القطاعات الحكومية والخاصة- واعتبار هذه القطاعات أجزاءً مترابطة في نظام صحي وطني، وتنظيم العلاقة التكاملية بينها في مجال إحالة المرضى ورعايتهم والتنسيق بشأنهم، وتطبيق الملف الصحي الإلكتروني الموحد.
- ثانياً: تغطية تكاليف الخدمة بواسطة طرف ثالث مستقل، بما يضمن الفصل بين مموّل الخدمة ومقدم الخدمة، بأسلوب التأمين التعاوني من خلال شركات تأمين أو صندوق تأمين تموّله الدولة أو ميزانية سنوية تدفع للمرفق الصحي المدار ذاتياً لتغطية خدماته، مع مراعاة تحقيق العدالة والجودة لجميع الشرائح الاجتماعية.
- ثالثاً: تسجيل السكان حسب اختيارهم أو مقرّ سكنهم في واحد من المراكز الصحية أو المجمعات والعيادات الخاصة مع توزيعها بشكل متوازن بين أحياء المدن، وتحديد العدد المناسب من أطباء الرعاية الأولية حسب عدد السكان المسجلين.
- رابعاً: توفير أعلى مستوى ممكن من التأهيل والتدريب للطبيب وفريقه الصحي وضمان جودة الأداء لكسب ثقة المرضى.
- خامساً: توفير التجهيزات والمرافق اللازمة بما يمكّن الطبيب ومساعديه من أداء الفحص والتشخيص بمستوى متقدم، ودعم المركز -كلما أمكن- بزيارات مجدولة من قبل إخصائيين من القطاع العام أو الخاص.