التغيير الوزاري الواسع النطاق الذي أمر به خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- في الأسبوع الماضي لقِيَ صدى إيجابياً ورضاً واسع النطاق، كما لو كان منتظراً بشغف. الوزراء السابقون بذلوا قصارى ما استطاعوه من جهد، وتركوا مكانهم مهيّئاً لمواصلة الجهد بدماء جديدة.
فللوزراء الجدد خالص التهنئة، ولهم أطيب التمنيات بأن يوفق الله مساعيهم وأن يحققوا المأمول منهم. وفي مناسبات سابقة بمثل هذا الحجم كان التغيير يطال -أحياناً- تركيب بعض الوزارات من حيث المهام النوعية المزدوجة مثنى وثلاث -أي حين تتولّى إحدى الوزارات مهام مصلحتين مختلفتين (أو ثلاث)، يبدو في الظاهر أنها غير متوافقة، وأن الجمع بينها في وزارة واحدة قد يكون في صالح إحداها على الأخرى. هذا التغيير لم يحدث هذه المرة، لأنه -على الأرجح- لم يظهر من التجربة الطويلة أي أسباب عملية تدعو لذلك. ولو أردنا استعراض بعض الأمثلة لبدأنا بالمثال الأقرب دائماً للأذهان، وهو وزارة الزراعة والمياه- كما كانت تسمى سابقاً. فقد بدا الجمع بين الزراعة والمياه -آنذاك- منطقياً، لأن التوسع في الزراعة لغرض تحقيق الأمن الغذائي كان يوجب توفير المياه بغزارة واستخراجها من مصادرها الطبيعية، السطحية والجوفية. لكن المشكلة الكبرى تمثلت في أن المياه بالمملكة شحيحة وغير متجددة. وهنا التضارب، فالتوسع في الزراعة نوعاً ومساحة يستنزف مخزون المياه الطبيعية؛ ذلك أن الزراعة تستهلك 90 في المائة مقابل 10 في المائة للاستهلاك البشري. وبالفعل تناقص مخزون المياه الجوفية وجفت العيون. وعلى أي حال تغيّر الوضع وفصلت مسؤولية المياه عن الزراعة، واتخذت إجراءات للحدّ من التوسع العشوائي في حفر الآبار الارتوازية ومن زراعة القمح والأعلاف. ولعله كان يمكن بنظرة بعيدة المدى وموازنة دقيقة بين الأولويات والموارد المتاحة تجنّب تلك النتيجة. ولا وجه للمقارنة مع جمع الماء بالكهرباء في وزارة واحدة، فإن إنتاجهما واستهلاكهما يتم بشكل منفصل في إطار مشاريع البنية التحتية التي تنفذ لإنشاء المرافق العامة. (من قبيل المزاح نقول إنه لا خطورة في الجمع بينهما ما لم «يتماسّا» - فالاختلاط هنا ممنوع). ولكن الكهرباء تجرنا إلى تاريخ سابق، حين كانت تجتمع مع الصناعة في وزارة واحدة، تولاها منذ عام 1395هـ الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله-. كلاهما شهد ازدهاراً -لا يزال مستمراً- لما حظيا به من اهتمام ولاة الأمر -حفظهم الله- وسخاء الدولة في الإنفاق على مشاريع الكهرباء مع ربطها بهيئة مستقلة، وعلى قاعدة الصناعات البتروكيميائية (سابك)، وفي منح القروض للمستثمرين في الصناعة وتسهيل إجراءات الترخيص واستيراد المواد الخام وجلب العمالة والحصول على الأرض. ولم يتغيّر الحال على الرغمن جمع كلّ منهما برفيق آخر في وزارتين مختلفتين، لأن استراتيجية الدولة كانت واضحة. والجمع بين مصلحتين مختلفتين نوعياً يتم غالباً لأسباب عملية. فقد يكون المنطق العملي وراء جمع الصناعة لاحقاً بالتجارة أن كلا المصلحتين تتعاملان مع استيراد وتوزيع وتصدير مواد وسلع ومنح تراخيص وغير ذلك من أمور مشتركة، إلا أن اتساع نشاط الوزارة وتركيزها على تنظيم مراقبة الأنشطة التجارية والأسواق وتوافر المواد الاستهلاكية وحماية المستهلك عامة ومراقبة جودة السلع، بما فيها جودة مخرجات المصانع المحلية وكشف السلع المقلدة والغش التجاري، قد يجعل من انفراد التجارة بوزارة مستقلة أمراً ضرورياً في المستقبل، وتصبح الصناعة كنشاط استثماري أقرب إلى وزارة الاقتصاد. إن انقسام ثنائية الوزارة (أي انفصال مصلحتيها) يصبح ضرورياً إذا تضخم حجم أحدهما أو كلاهما وتغيّر نمط إدارتهما - كما كان الحال في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية سابقاً. فإن نمو القطاع الخاص والصناعة الوطنية ومتطلبات السلامة المهنية وتضخّم حجم العمالة الأجنبية ومشكلاتها أيضاً من جهة، وتزايد الضغط من أجل توطين الوظائف وتأهيل السعوديين للعمل في المهن التقنية من جهة أخرى، قد أوجب انفراد العمل بوزارة مستقلة. وربما ترجّح كفة العمل في القطاع الخاص مستقبلاً لصالح السعودة، فيصبح الجمع بين العمل والخدمة المدنية في وزارة واحدة للقوى العاملة أمراً محتملاً.
أما القطاع التعليمي فقد شهد تطوراً ملحوظاً في ارتباط مكوّناته. فما كان منقسماً بسبب اختلاف الجنس وتحفّظ الجهات الدينية إلى وزارة للمعارف ورئاسة لتعليم البنات، جمعة منطق وحدة المناهج والأساليب التربوية في وزارة واحدة هي وزارة التربية والتعليم مع المحافظة على انفصال المرافق التعليمية بين الجنسين. ومع أن التعليم العالي (فوق الثانوي) استمرار للتعليم العام ومندمج معه في وزارة المعارف حتى عام 1395هـ، إلا أن توسع الجامعات الأربع الموجودة آنذاك (الملك سعود، والملك عبدالعزيز، والبترول والمعادن، والجامعة الإسلامية) في إنشاء الكليات والأقسام وزيادة طلابها وإنشاء جامعة خامسة (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) عام 1394هـ، وزيادة عدد المبتعثين، قد حتّم انفراد التعليم العالي بوزارة مستقلة. أما التعليم المهني فكان تحت إشراف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، لأن مخرجاته كانت أقرب لمسؤوليات هذه الوزارة، ولم تكن مدارس التعليم العام مهيّأة للتدريب المهني. وربما يؤدي إدخال المسار المهني في التعليم الثانوي العام -كما تردّد مؤخراً- إلى نشوء رابطة أشدّ بين المؤسسة العامة للتدريب الفني والتقني ووزارة التربية والتعليم. أما قضية الجمع بين الثقافة والإعلام في وزارة واحدة فليست واضحة كل الوضوح، إلا من حيث شكل السلعة المنتَجَة (الكلمة المسموعة والمقروءة، والصورة المشاهَدة) وعمومية التلقّي والنشر (بعكس التعليم). إلا أن الثقافة تنبع أساساًً من إبداع الفرد فكراً أو فناً ليعبّر عن أحاسيسه أو رؤاه أو خياله في مجال فسيح خالٍ من القيود إلا القيود التي يضعها لنفسه أو يراعى فيها أنظمة عامة، والمتلقي هو أي قارئ أو مستمع أو مُشاهد يستوعب أو يستمتع. أم الإعلام فهو بثّ المواد الجاهزة المراد نشرها عبر وسائل الإعلام التي تديرها الدولة أو مؤسسات إعلامية مستقلة مرخصة (كالصحف والقنوات الفضائية ودور النشر ونحو ذلك). غير أن التداخل يفرض نفسه؛ فلا بدّ من الاعتراف بأن الأنشطة الثقافية لدينا لا يمكنها
-إلا بشكل محدود- الاعتماد على نفسها وعلى المجتمع المدني أو القطاع الخاص في التمويل لتوفير ما يمكن تسميته (البيئة التحتية) اللازمة لتهيئة ورعاية وإخراج النشاط والإبداع الثقافي مثل معاهد الفنون المختلفة والمسارح ووسائل الإعلام والنشر والمعارض وغيرها، وأخيراً تسويقها. ولا غنى عن دور الوزارة الإيجابي في الرعاية والتشجيع والدعم مع التخلّي عن دورها في تنمية المواهب والتنسيق والتنظيم والإشراف وتركها لهيئات ثقافية نوعية مستقلة من المجتمع المدني، مثل روابط الكتّاب أو الأندية أو الفنون أو ما شابه ذلك؛ وبهذا تتحاشى ما لاحظته اللجنة المختصة بمجلس الشورى عند مناقشتها لتقرير الوزارة عن عام 1434-1435هـ من (هامشية اهتمام الوزارة بالثقافة وضعفه.....)، وحتى لا تعاني الثقافة من وطأة البيروقراطية والروتين (جلال الطالب- الجزيرة- 20- صفر، في مقالة: وزارة الثقافة بحاجة إلى استراتيجية). والوزارة -في ظني- لم تغفل عن ذلك، فقد تحولت الإذاعة والتلفزيون إلى هيئات مستقلة بإدارة ذاتية. الثقافة في ظني أيضاً أولى بأن تكون مستقلة!