المدرسة في القرية أو الهجرة هي في نظر أطفال ذلك المكان القصي بمثابة جامعة ستغير مجرى حياتهم وستنقلهم إلى عالم الكتاب الفسيح والحرف الحر والثراء اللا محدود، والمعلم عندهم يعرف كل شيء، ولديه حل لكل مشكلة، وهو قدوتهم في سلوكهم، ومثالهم الذي يحتذى به في لبسه وأكله وشربه، وغاياتهم وأمنياتهم أن يصبحوا مثله يومًا ما، هذه النظرة قد تتعدى أسوار المدرسة لتصل إلى كل بيت، وتعانق رجال هذا المجتمع الصغير واحدًا تلو الآخر، ولذلك من المفترض أن يكون المعلم والمعلمة في هذه المجتمعات البسيطة على مستوى القدوة، ويعرف كل منهما كيف يكون مثالاً ونموذجًا صالحًا للكل، وأن يتجاوز في نظرته لنفسه مجرد كونه معلمًا للصبية إلى رقم فاعل ومؤثر في القرية، ومن خلال عملي في قطاع التربية والتعليم يومًا ما عايشت وعرفت وخبرت وسمعت حكايات وقصصًا تبرهن على ما أشرت إليه أعلاه سلبًا أو إيجابًا.
كنت يومًا ما على متن طائرة متجهة إلى العاصمة الرياض وصادف أن جلست بجوار مهندس يعمل مديرًا لشركة زراعية وطنية كبرى، ولد ونشأ ودرس المرحلة الابتدائية في قرية صغيرة غالبية أهلها كانوا آنذاك تحت خط الفقر ولا يعرفون كثيرًا من النعم التي نرفل ويرفلون فيها اليوم، يقول لي في ثنايا حديثه عن التربية والتعليم (... لقد جاء لقريتنا معلم من المدينة المنورة أثر فينا تأثيرًا قويًا، حبب لنا العلم واستطاع أن ينقلنا من مجرد أطفال بسطاء ليس لنا هدف أو طموح إلى أناس أصحاب همم عالية ونظرة مستقبلية واعدة، ليس هذا فحسب بل كان يملك مهارة الذكاء الاجتماعي ويعرف ظروفنا الاقتصادية فيسد حاجتنا بطريقة تربوية لا تجرح ولا تلفت الانتباه، إذ كان يجلب معه من المدينة فرش الأسنان والصابون وأدوات التنظيف ويغلفها بطريقة جميلة، ثم يسأل أسئلة ثقافية عامة بسيطة سواء في الطابور أو داخل الصف ويقدم لمن يجيب إجابة صحيحة هديته وسط تصفيق حار من الطلاب، الذين لم يروا الفرشة والصابون من قبل ولم يعرفوا تنظيف أسنانهم بل ربما أجسادهم إلا على يد هذا الرجل وبتوجيه منه، علاوة على أنهم رسموا طريق حياتهم وأيقنوا أنهم يمكن لهم أن يكونوا شيئًا آخر في قادم أيامهم بناء على ما زرعه في أنفسهم من ثقة وما منحهم بعد توفيق الله من دافعية وإرادة، ولذلك فإنني أدعو له دائمًا وأتمنى أن أعرف طريقه لأقدم له الثناء وجزيل الشكر والتقدير، وأخبره أن ما زرعه وسقاه قد أثمر وكبر بتوفيق من الله وعون، ثم بما كان منه من تعليم وتربية وتحفيز).
إن التعليم القروي في نظري ليس أمرًا سهلاً على المعلم، والطالب هناك لا يقل ذكاء عن طفل المدن والحاضرة بل يتفوق عليه غالبًا، ولذلك لا بد من إعادة النظر في كيفية الرقي بالتعليم القروي وإيجاد محفزات ومعززات للمعلمين والمعلمات هناك حتى يتسنى لهم أداء رسالتهم والتأثير في طلابهم بشكل أقوى وأعمق، وما يدريك لعله أن يكون من بينهم الطبيب الماهر والمهندس الفذ والمعلم المتميز وعضو هيئة التدريس المتخصص في أدق العلوم.
قبل سنوات توفي شاب كان معلمًا للتربية البدنية في قرية صغيرة، ولم يكن أحد يظن أن هذا الشاب تتعدى صلته بهذا المجتمع الصغير التدريس داخل أسوار مدرسة أولادهم، ولكن كانت المفاجأة أن جاء أهل القرية رجالهم ونساءهم ثاني أيام رحيله من هذه الدنيا ليقوموا بواجب العزاء بعد أن علموا من زملائه في المدرسة بنبأ وفاته، وليكشفوا عن طرف من أعماله الخيرة التي كان يقوم بها تجاههم دون أن تعلم حتى زوجته بذلك، فقد كان يوزع راتبه على بيوتهم البائسة ويساعد محتاجهم ويشتري لهم الملابس والطعام كل شهر.
إنني أعتقد أن للتربية والتعليم في القرى والهجر المتناثرة في مناطق مملكتنا الحبيبة رسالة مجتمعية مهمة ودورًا تنمويًا أساسًا يتعدى فيه المعلم حدود عالمه الصغير ليصل إلى بيوت القرية ولذلك يجب أن تعزز دافعية العمل التطوعي وخدمة المجتمع لدى شريحة المعلمين والمعلمات هناك والتأكيد على أن كلاً منهم ينظر إليه في هذا المجتمع المحدود قدوة ومثالاً.
من الضروري أن يكون تعليمنا يتسم بالمرونة ولا نطالب المعلمين في الأماكن النائية والبعيدة بما نطالب به معلم المدينة فرسالته أشمل ودوره أهم وعلاقته بالطالب وولي الأمر أعمق، وأثره أقوى، وصورته سترسخ في ذهنية هذا الصغير بشكل كبير، وحتى نرسم ملامح ونتبين معالم هذا النوع من التعليم أتطلع إلى أن ينبري صاحب السمو الملكي خالد الفيصل وزير التربية والتعليم لعقد مؤتمر وطني خاص بهذا الموضوع الحيوي المهم كيف لا وهو صاحب المبادرات النوعية والحس المرهف والمشاعر الفياضة والعقل الواعي والقلب الكبير، وعندي يقين أن الأوراق والمناقشات والقصص والحكايات والنتائج والتوصيات ستكون مفاجأة للكثير وستنقل تعليمنا القروي إلى أبعد مما عليه الآن بشكل كبير دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.