قلت في مقال سلف: [من لشبابنا المتخطف من بين أيدينا]، وهذا المقال وذاك صرخات خائف يترقب؟. فالوضع العالمي، والعربي، والمحلي يجعل العاقل يشقى في النعيم، على سنن:-
[ذُو العَقْل يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِه...]
ونَعِيْمنا الوارفُ الظلال، لا يمنع من الخوف الوجل، ولا من الترقب الحذر. ومن لم يخف، فقد يؤخذ على غِرَّة.
ونحن إذ نكون وسط اللَهب، فإننا مطالبون برفع درجة الترقب والحذر، واستنفار كل الإمكانيات المتاحة، لحفظ الثغور: الحسية، والمعنوية.
فثغور الأفكار، لا تقل أهمية عن ثغور الديار. وما نيل من المثمنات الحسية إلا من بعد ما لوِّثَت المثمنات الفكرية. والظفر بالسلامة خير من التحرف للخلوص من المأزق.
إذ لم يَعُدْ بإمكان المغموس في مستنقعات الفتن، أن ينزع نفسه منها، دون أن يدفع أبهظ الأثمان.
ولقد تخفى الفتن ساعة إقبالها على الناس، ولكنها حين تُوَلِّي الأدبار، يعرفها كل الناس، ولكنها معرفة لا تغني من الحق شيئاً.
المشهد العربي يفيض بالسوء، وبدعاته. وأموره معقدة، وإشكالياته نامية، وحَلَقاته مُسْتَحكمة، ووقود ذلك كله ناشئة الأمة، لما هم عليه من براءة في الضمائر، واندفاع في المشاعر، واستياء من الأوضاع العالمية، وتحرف غير مسدد لإنقاذ الأمة من تردياتها في درك الشقاء.
ودعاة السوء يستغلون هذه الأشياء. ويتقنون لعبة المخادعة، والمخاتلة، والتغرير، والتضليل.
ولست أشك في براعتهم في الاستمالة، والإقناع. ذلك أن واقع المنظمات الإرهابية بَادٍ عواره، مكشوف خساره، ومع ذلك يتهافت الشباب على بؤر التوتر، ويتفلتون على أهلهم، وعلى سلطاتهم، ولا يصيخون للتحذير، ولا للتخويف الذي يستمعون إليه من العلماء، والمفكرين، ورجال الإعلام.
لقد شُغلنا بهذه الظاهرة المخيفة، ظاهرة التلويث الفكري، وتَساءلنا عن دورنا في ثني أبنائنا، والحيلولة دون تهافتهم على المناطق القلقة. ولكننا كمن ينعق بما لا يسمع.
ولما يزل تساؤلي قائماً، وتخوفي يزداد ساعة بعد ساعة. فالواقع العربي لا يبشر بخير. إن هناك من يتفلت بِجَسدِه، كي يلحق بالمقاتلين. ومن يتفلت لسانه بكلمات التأييد، والدفاع عن تلك الجماعات، التي تَسْتَحل الدم المعصوم، وتعتدي على الأعراض المحرمة، وتخل بالأمن الوارف، وتهلك الحرث، والنسل، وتسعى في الأرض لتفسد فيها.
إن همنا جميعاً: - دولةً، وأمةً، وحكومةً - إعلاء كلمة الله، وتحكيم شرعه، وإقامة حدوده، وإعادة الأمة المسلمة إلى جادة الصواب.
وإذا رُفِعَت هذه الدعوة من أي جماعة متوحشة، خارجة على السلطة، فإن واجب المسلم ألا يكون خِبّاً، وألا يخدعه الخب. فالهم الإسلامي قضية الكافة، ولكن تحقيق ذلك، لا يكون بإشهار السلاح، وتخويف الآمنين، وإزهاق الأنفس المعصومة، والخروج على الشرعية، وتفكيك لحمة الأمة، وخيانة العهود، والمواثيق.
دعونا نقَوِّم الداعية قبل الدعوة، والمنهج قبل المهمة، والواقع قبل التطلع، والإمكانيات قبل الرغبات.
إن استدراج الشباب بهذه الدَّعوات، والادعاءات الخَدَّاعة، لايقره عقل، ولاتقبله مِلَّةٌ، وهو من باب الحق الذي أريد به الباطل.
وشبابنا المتفلت على الآباء، والأمهات، والعلماء، والسلطات مسؤوليتنا، فكل قادر مسؤول، وليست المهمة قصراً على علماء الشريعة، والتربية، والإعلام، والأمن.
وإذ يتعين الجهاد عند اقتحام العدو أرض الوطن، فإن دعاة السوء اقتحموا أدمغة أبنائنا، وأدخلوا الشك في نفوسهم، وحملوهم على التسلل لواذاً إلى بؤر التوتر. وأثرهم السيء، لا يقل عن أثر الجيش الغازي، الذي يقتحم علينا أرضنا، ويدخل علينا بيوتنا.
إن هناك رؤى سياسية متناقضة في تقويم تلك الجماعات: قوة، وضعفاً، وأثراً، ومشروعية. وهناك رؤية وطنية هي الأخرى متفاوتة. والمواقف السياسية لها رؤيتها، وقراءاتها، وحساباتها في التنظيمات، وخطرها. وللموقف الوطني حساباته، وقراءاته.
قد لا نأبه بالجماعات من حيث القوة الحسية، لتوفرنا على القوى الرادعة حسياً، ومعنوياً. ولتماسك الجبهة الداخلية. ولكن اختراقها الفكري، لا يقل خطورة عن اختراقها العسكري.
الجماعات الإرهابية تعيث فساداً في مواقع عدة في وطننا العربي، لأن لديه القابلية، وقد لا يتحقق لهذه الجماعات المتناحرة النصر الحاسم، ولكنها ستقضي على قيم وطننا العربي، وستعيده إلى الخلف، والهامشية.
ويكفي أنها أنشأت الطائفيات، والإقليميات، والعرقيات، والحزبيات البائسة. والبلد المتصالح مع أطيافه تَحَوَّل إلى جماعات متناحرة، تهيء الأجواء لمزيد من الدمار، والنفوذ الاستعماري.
ونحن، وقد أدركتنا العناية الربانية، فَنَأت بنا عن هذه البؤر المتوترة، مطالبون بالحفاظ على المكتسب.
ولست أشك أن الاختراق الفكري، لايقل سوءاً عن الاختراق العسكري. بل أكاد أجزم بأن الاختراق الفكري أخطر على الأمة من أي اقتحام عسكري، ذلك أن تطهير البلاد من فلول المعتدي، أيسر من تطهير الأدمغة من لوثة الفكر.
ومن اليسير جداً، وقد حبانا الله بفضله، وحمى أرض المقدسات من الوقوع في الفتن أن نتحرف للحيلولة دون استدراج شبابنا، والدفع بهم إلى التهلكة.
وبقدر فَرَحنا في اكتشاف خلية نائمة، أو متحركة، فإننا نستاء، لأن وقودها أبناؤنا الذين غفلنا عنهم، وأتحنا للأعداء استدراجهم، وحملهم على إفساد ما أصلحه آباؤهم، وأجدادهم في معارك التكوين.
لقد أوْحِيَ إلى شبابنا أن إقامة شرع الله، وتحكيم كتابه، لا يتحققان إلا بإشهار السلاح في وجه السلطات الحاكمة، والقضاء على كافة المؤسسات المدنية القائمة.
ولن أستدعي الأدلة الدامغة لهذه التطلعات، فالواقع العربي بكل ما يعج به من فتن عمياء خير شاهد.
وما علينا إلا أن نرسم [خارطة طريق]، ونختط [استراتيجية] نعرف من خلالها كيف نتحرك، وبأي أسلوب نواجه.
إن الجهود الفردية، والحلول المتقطعة، لا تقطع دابر المشكلة. ومؤسساتنا التعليمية، والتربوية، والإرشادية، والإعلامية، والثقافية مطالبة بإنجاز (الخريطة) والمنهج، والنهوض بعمل جماعي منظم، وممارسة مستدامة، على كل الصعد، فالوضع لم يعد قابلاً للتسويف، ولا مُدْركاً بالمتفرق من الممارسات.
إن هناك إسهامات، لم تَرْقَ إلى مستوى المشاريع، تُمارس بين الحين، والآخر. وهي وإن كانت حميدة، إلا أنها غير كافية.
إننا بحاجة إلى عام نسميه [عام الحسم]، فيه تُطَوَّق نوافذ الأفكار، ويُفرغ الملوث منها بالحجة البالغة، والبرهان الحاسم.
فالأساليب المتبعة مفضولة. دعونا نحلل أساليب الدعاة على أبواب جهنم، لنعرف كيف تمكنوا من الاستمالة، والإقناع.
إن ضَخَّ الأحكام، وجاهزية القول، والركون إلى الثقة غير المبررة مدعاة إلى تفويت الفرص.
شبابنا يُسْتثار، ويستمال.
- فأي أسلوب تربوي يُمارسُ لاختطافه؟
دعونا نستعين بخبرات العائدين من التيه. نسألهم:
- كيف اسْتُمِيلوا؟
- وبأي آلية، ومنهج استميلوا؟
فكم من شيطان يصدقك، وهو كذوب.
لقد استعان الرسول صلى الله عليه وسلم بأسرى «بدر» لتعليم أبناء المسلمين. والتنظيمات الإرهابية لديها من الخُطَطِ، والخِبْرات، والخُبَراء، ما يمكن الاستفادة منه، وليس هناك ما يمنع من المقايضة، لنحارب العدو بالسلاح الذي يخافه.