يوم 18 ديسمبر من هذا العام خصصته الأمم المتحدة لتكريم اللغة العربية. وقد أقيمت في الأندية الأدبية والجامعات نشاطات متنوعة احتفاءً بهذه المناسبة، وهذا شيء جميل يليق بلغتنا الجميلة.
لكني في الواقع لا أدري مدى أهمية هذا التكريم وفائدته للغة العربية. فإنَّ كان التكريم من قبيل التبجيل والتقدير أو الإشادة بإعجازها وعظمتها فقد كفانا القرآن الكريم مؤونة ذلك، فهي لغة القرآن الذي هو كلام الله، والذي يقرأه ويسمعه المسلمون عدة مرات في كل يوم منذ ألف وأربعمائة وتسعة وثلاثين عاماً، أي منذ بعثة محمد - صلى الله عليه وسلَّم - . ولا تكريم أفضل من هذا. وفي هذا المعنى قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
أما إن كنا نحتفل باللغة العربية في موطنها للتذكير بقدرتها على استيعاب شؤون الحياة ونشاطات البشر قديمها وحديثها، وعلى الاستخدام كلغة معبرة عن أعقد المعاني والعلوم لنردّد مع الشاعر نفسه:
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ
فإن هذا التكريم لا يزيد على أن يكون تكراراً لا يكتسب قيمة إضافية بدون برهان عملي. ويدل على ذلك أن التكريم لم يحتفل به إلا النوادي الأدبية وأقسام الآداب بالجامعات. فكأن ذلك هو الشهادة بأن لغتنا بارعة في مجال الآداب والعلوم الإِنسانية، وأن هذه اللغة العظيمة لم تخدمنا في مجالات العلم والتقنية لتصبح هي لغة العلوم والتقنية العصرية التي يتحدث بها المتعلمون عامة والمتخصصون والباحثون والمحاضرون في الجامعات والمعاهد، وينشرها العلماء في كتبهم العلمية ومجلاتهم، ويدونونها في الشبكات العنكبية، ويرجع إليها الدارسون والباحثون في مراجع مكتوبة بلغتهم. إذا جرت العلوم ومصطلحاتها على الألسن بيسر وسهولة وصارت مفهومة باللغة الأم، تحررت الأفكار والابتكارات من عقالها وانسابت أيضاً بيسر وسهولة، لأنّها ائتلفت مع اللغة في بيئة ثقافية واحدة، بدون حاجز القفز من لغة لأخرى. العامل المؤثر في هذا الانسياب هو الثروة اللغوية - أي قدرة اللغة على توفير المفردات والاشتقاقات التي تعبر عن أي منتج فكري. أرأيتم كيف ينساب الشعر الجميل على لسان الشاعر الموهوب لأنه يملك للتعبير عن كل خاطرة تخالجه أو غرض يريده ثروة من المفردات اللغوية. لهذا ربما جاز لنا - مع الفارق النوعي طبعاً - أن نتمنى أن يكون لدينا علماء مبدعون كما أن لدينا شعراء مبدعين. في عصرنا الحاضر أكثر العلوم - إن لم يكن كلها - تودع في الكتب وتنشر في المجلات وتُلقى في المؤتمرات بغير اللغة العربية، والأدهى من ذلك أنها تُدرّس للطلاب ويُتحدث بها في الاجتماعات العلمية بغير العربية. كيف لنا أن نبدع إذا كنا لا نفكر ونعبر بلغتنا الطبيعية؟ إن لغتنا تخدمنا في الوصول إلى ما نتمناه لو ترجمنا أغلب ما فاتنا من علوم ومعارف علمية وتقنية وكل ما يستجد من تطور علمي. لكنها لن تخدمنا حتى نخدمها نحن في الأمور التالية على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً : ان تعليمنا للغة العربية منذ مراحل الدراسة الأولى قائم على التلقين والحفظ ويكتفي بحل التمارين كواجب، لكن لا يتم التمرين الحيّ على استخدام ما تمّ تعلّمه بالتخاطب والتعبير الشفوي - مثلاً. لذلك تموت هذه اللغة الحية على ألسن الطلاب، لأن إتقان التعبير باللغة الفصحى تراكميّ ينبني تدريجياً بالتطبيق الحيّ المستمر. ولعل توجيه سموّ وزير التربية والتعليم بضرورة التحدث بالفصحى في الفصول يكون هو التطبيق الحيّ المأمول. ومن عوائق التطبيق الحيّ أن منهج اللغة العربية غير مترابط، فالنحو والأدب والمطالعة والتعبير أجزاء منفصلة.
ثانياً : تقوية منهج اللغات الأجنبية في التعليم العام والجامعي والفني يخدم اللغة العربية من حيث التمكين من الترجمة إليها ومنها في الأوساط العلمية وفي التعامل مع العلوم والتقنية عموماً. ويزيد فرص التمكين - ربما - إذا تضمنت مقررات اللغتين العربية والأجنبية عدداً أكبر من الموضوعات العلمية وتناسبت تلك الموضوعات في نفس السنة الدراسية مع بعضهما، مما يتطلب التنسيق بين واضعى المناهج.
ثالثاً : ترجمة العلوم والأبحاث والابتكارات إلى اللغة العربية بهدف التعريب يجب أن يكون تخصصاً قائماً بذاته ومتفرعاً من الحقل العلمي الذي يترجم منه - كالطب والهندسة وغيرها. إن التخصص النوعي يوجد كفاءات ذات قدرة عالية في الترجمة، وفي سرعة الترجمة المطلوبة لأمهات الكتب العلمية المقررة للدراسة، ومواكبة الأبحاث والمعلومات والابتكارات المستجدة أولاً بأول، لتكون في متناول الدارسين والباحثين فور صدورها، وكذلك في الترجمة الفورية لما يقال في المؤتمرات ونحوها.
رابعاً : الترجمة السريعة والشاملة والمواكبة - كوسيلة للتعريب، ومن ثَمّ توطين العلوم الحديثة، - تتطلب جيشاً من المترجمين المتخصصين، سواءً كانوا متفرغين للترجمة أو مدرسين أيضاً. والدولة العربية الواحدة ليس في إمكانها تخريج وتأهيل الأعداد الكافية. ويجب النظر إلى هذا النشاط كمشروع نهضوي للأمة العربية، تشارك في تمويله وتنفيذه جميع الأقطار العربية، بحيث توزع المهام والمسؤوليات على الدول تحت مظلّة منهجية وإشرافية واحدة، وتُنشأ لها مؤسسة عربية مستقلة يديرها علماء ذوو خبرة واسعة في المجال العلمي والتقني، ويخصص لها ميزانية مجزية. لعل ذلك يساعد في الارتقاء بأمتنا على سلّم الحضارة الحديثة، بعد أن هبطت بها النزاعات والخرافات إلى القاع.
ليس هذا مستحيلاً - وإن بدا الآن حلماً. فقد تحقق في زمن مضى على يد هارون الرشيد وابنه المأمون، حين أنشئت دار الحكمة، وجُلب لها العشرات من المترجمين والعلماء الذين نقلوا علوم الهند وفارس واليونان إلى اللغة العربية، فنشأت أجيال من العلماء المسلمين الذين أسسوا حضارة إسلامية علمية، أشرقت بنورها على الغرب وغابت عن الشرق، بعد أن انشغل حكامه بالتكالب على الحكم والملذات والصراعات الشعوبية وتركوا جحافل الظلام والخرافات تزحف على المجتمع، فتخلق فيه (القابلية للاستعمار - مالك بن نبي) وتعبّد الطريق لزحف جحافلة. وقد يتحقق الحلم في العصر الحاضر أيضاً فنصنع مثلما صنع اليابانيون والكوريون - من خلال خدمة اللغة العربية، فنقلب وصمة القابلية للاستعمار إلى إشراق القابلية للتطور. ولعل مركز خدمة اللغة العربية يكون أول قطرة في الغيث.