تثمن الجهود وتقدر وتشكر فتذكر بناء على النجاحات التي تتحقق، ومعايير النجاح ومؤشراته واضحة معلومة، والمخلص في عمله، الصادق في نواياه، الموفق في جهوده، هو من يستشعر عظم الأمانة، ومن يعد نفسه خادما للجهاز المكلف بإدارته، هو من يضع المعايير ومؤشراتها نصب عينيه، ويعمل وفق مقتضياتها التي تقود إلى تحقيق الآمال والمقاصد المرجوة، خدمة للجهاز والمستفيدين منه، أما ذاك الذي تحركه شهوة عناوين الصحف، والدعايات الفارغة، فإنه سرعان ما ينكشف أمره، ويفقد مصداقيته،. ويسقط من أعين العاملين معه، وكذا المستفيدين من الجهاز الذي يتسنم قيادته.
ومن السنن المعلومة، أن النجاح في إدارة أي جهاز عام أو خاص، يتطلب مهارات وخصائص فطرية ومكتسبة في الشخص المكلف بالإدارة، هذا عطفا على ما يجب أن يتملكه من علم ومعرفة بشؤون الجهاز الذي سوف يديره، وأدوار ذلك الجهاز وسياساته، وحدوده ومجالاته.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني ؟ فضرب بيده على كتفي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وأنها أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
إن رفض رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- تولية أبا ذر الغفاري رضي الله عنه على إحدى بلاد المسلمين، لا يعد طعنا في أبي ذر وأمانته، بل هو درس في الإدارة حيث يلزم توخي الصفات التي يجب أن تتوافر في القائد، فأبو ذر لا يصلح للإمارة، نظرا لكونها تتطلب خصائص وسمات يفتقدها أبو ذر رضي الله عنه، على الرغم من تزكية الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- لقدراته الأخرى، فقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر، فهذه شهادة في فصاحة أبي ذر وبلاغته، لكن الفصاحة والبلاغة لا تكفيان وحدهما لتولي الإمارة والقيادة، مما يعني وجوب التحلي بالسمات والخصائص الأخرى التي تلزم القائد كي يؤدي عمله بنجاح واقتدار.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
ما أجل هذا الحديث وأصدقه، وما أشبه الليلة بالبارحة، إنه حديث شريف يشخص حالة الندرة في الرجال الأكفياء الذين يشد بهم الظهر، وتنجز على أيديهم الأعمال والمهمات على أكمل وجه وأتمه، الرجال كثر، وخاصة أولئك الذين ينمقون الكلام، ويعدون أكثر مما يفعلون، الذين يحسنون لبس العقال والغتر المكوية والبشوت الغالية، هؤلاء الرجال يحسنون صناعة المظهر، أما الجوهر فخاو أجوف، فمن مجرد كلمتين يتفوه بهما تعلم مخبر الرجل، وأن ما في الحمض أحد، وأنه آن لأبي حنيفة أن يمد رجله، فالرجال كما يقال: مخابر لا مظاهر.
وبناء على هذا، وعلى الرغم من توفر الرجال الذين يرون في أنفسهم كفاءة وقدرة على تسنم القيادة في مراتبها العليا، إلا أن التجارب الميدانية أثبتت عكس ذلك، فأمثال أبي ذر رضي الله عنه كثر، وهؤلاء وإن زعموا أن لديهم القدرة، إلا أنه يجب الحذر منهم، وعدم التردد في إزاحتهم عن رعاية المصالح العامة متى ما تبين فشلهم، فهؤلاء عبء على الدولة يحملونها مسوغات فشلهم وتقصيرهم، والمتضرر أولاً وأخيراً المواطن بصفته المستفيد من الخدمات التي تقدمها أجهزة الدولة المختلفة.
معلوم ندرة الرجال الأكفياء الذين يتعاملون مع ما يكلفون به بمهنية واقتدار، لكن مازال الوطن قادرا على تقديم نماذج محترمة تتعامل مع مهماتها بمهنية عالية أمثال توفيق الربيعة، الذي يعمل بعيداً عن صخب الدعاية التي لم يجن منها إلا الخيبة والفشل.