في الأثر الصحيح عن أبي هريرة: [إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلكُهم].
ولهذا الحديث توجيهات بنائية: موضوعية، ولغوية، تقي المتَخَوِّف، والمخَوِّفَ مِنْ تردِّي أحوال الأمة.
فإذا قالها الإنسان على سبيل التزكية للنفس، وعلى أنه وحده الناجي. فهو الهالك!
وإذا قالها للتخويف، والتحذير، وشحذ الهمم، فإنه يكون ناصحا لأمته، حاملا لهمِّها.
وأما التخريج النحوي، فإن كلمة [أهلكهم] تأتي برفع [الكاف] ونصبها، والرفع أرجح، وأكثر استفاضة.
وحالة النصب تعني أنه مجرد مخبر بهلاك الأمة، أي أنه هو الذي حكم عليهم بالهلاك، وليسوا كذلك.
وَرَدَ هذا الحديث على خاطري من باب التداعي، للاحتراس. فأنا لا أزكي نفسي، وما أنا إلا من [غزية]. والله وحده المسؤول أن يدل أمَّتي، ويهديهم سبيل الرشاد، لنسعد معها بسلوكه.
والقول بنقص سائر المشاهد عن التمام، وتعرضها لنكسات مؤلمة من الحقائق النهارية، التي لا تحتاج إلى دليل. فالأوضاع محكومة بالمشاحَّة، والمشاحنةِ. واضطرابات أحوال المشاهد بادية لكل ذي عينين، ولسان وشفتين. وما من متابع مجرب يقول بغير ذلك.
وكيف يتأتى لعاقل أن يزعم أن المشاهد لم تصل إلى درك الشقاء، وهي كما نرى، ونسمع تعج بالفوضى المستحكمة.
وكيف يتأتى للفوضى أن تكون خلاقة، كما يزعم المفسدون.
وحين نوغل في جلد الذات، فإن ذلك من باب الصعق، والعَصْف، أملا في أن يعي الجميع حجم الفواجع، ثم يتحركوا، لإيقاف هذا النزيف المخيف.
المشاهد الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والأدبية، وغيرها، تفيض بالهرج، والمرج، والانفلات المخيف.
يتمثل ذلك في جرأة الجهلة على مبادرة النوازل بالأحكام الفورية المرتجلة، والإصرار عليها، والقطع بأنها الخيار الأمثل، والحل الوحيد، الذي لا بديل له. وهذه الجرأة مدعاة لمزيد من الاحتقان، والاستياء.
وحين يستفحل التناجي بالإثم، والعدوان، ومعصية الحق. وحين تتساوى الرؤوس، ويذهب كل فضولي بما يرى.
وحين يطغى الهوى، حتى يصل إلى حد التأليه، تنفلت الأمور، وتحتكم حلقات المشاكل، ويصبح الناس في أمر مريج، لاسرات لهم، وإذا ساد الجهلة، زاد الوضع سوءاً، والأمور تعقيداً.
ولو ضربنا الأمثال بـ[المشهد الديني]. وهو الأهم، والأخطر، لتبدت لنا فوضوية الخطابات، وتناحر الآراء، وتعدد المتدافعين لتلقي ركب النوازل، والقول فيها بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
وحين يفقد المشهد الديني المرجعية: النصية، والشخصية، وتستفحل جُرأة المتعالمين على مبادرة الفتياء، والقول في الشأن العام، تكون الطامة الكبرى.
ولاسيما إذا استمرأت الرويبضات النبش في المختلف فيه بين المذاهب، والتهافت على شواذ المسائل، ورخص العلماء، والعدول عما سواهم من المتبحرين العارفين بالأصول، والقواعد، والمقاصد.
والمتابع يرى أن هناك مسائل إجماع، واختلاف. منها ما تستدعيه المواقف، وتقوم الحاجة إليه. ومنها غير ذلك. وخلط الأوراق، والتنازع حول المعلوم من الدين بالضرورة مدعاة إلى الفشل، وذهاب الريح.
لقد أسهمت وسائل الإعلام، ومواقع التواصل في تأزيم المواقف، واستفحال الفضول، والجدل العقيم، والوقوع في قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة الجهد، والوقت.
ولو أن الخائضين في الشأن الديني، احترموا التخصص: معرفة، ومسؤولية، وعرفوا قدر أنفسهم، وخافوا من القول في الدين بغير علم، لابتدر الأمر أهله، وبادر الفتياء، والنوازل من أعطاه الله بسطة في العلم، والعقل، وفقه الواقع.
إن الحياة السوية لا يقوم أمرها بتساوي الرؤوس، لا بد أن نفرق بين العلماء، والدهماء في مبادرة النوازل، ومقاربة الشأن العام.
ومن تصور حرية التفكير، والتعبير بهذا الشكل من الفوضى، فقد ضل، وأضل، وعرض الأمة للفوضى والانهيار.
المجتمعات السوية من تكل الأمور العامة إلى المؤسسات المخَّولة من السلطة التشريعية، ويقارب علماؤها غير المكلفين من ولي الأمر الفتاوى الخاصة باحترافية متوازنة.
وإذا احتدم الخلاف بين الأقران، رضوا بالرد إلى أهل الحل، والعقد، وأهل الذكر. وهم من فوضتهم السلطة التشريعية بذلك، واعتمدت عليهم في مواجهة النوازل، وإصدار الفتاوى.
لقد سيئت المشاهد الدينية بالأضوائيين، وعشاق الشهرة، ومتعالمي القنوات، الذين يتكئون على إثارة الرأي العام، ويركنون إلى الرخص، وشواذ المسائل.
ولو أنهم أحسنوا التناول، وأتقنوا التداول، وعرفوا أصول المذاهب، وقواعد العلماء، وتحروا الصدق، ونبذوا الهوى، لكان ما يفعلون مستساغاً، ومشروعاً، ومثرياً للثقافة العامة.
إن هناك محافل علمية، تدار فيها المسائل، ويحتدم الخلاف بين أساطين العلم، ولكنه جدل معرفي، وحجاج حضاري، وممارسة مشروعة، تؤدي إلى تأصيل المسائل، وتحرير المعارف، وتزويد المؤسسات الرسمية بالمستخلصات المعرفية.
والمختصمون المتخصصون لا يستثيرون العامة، ولا ينتصرون بهم على خصومهم. ومثل هذه الممارسات مطلب حضاري، لا غبار عليه.
ونحن هنا لا نحجر على العلماء الذين يشتغلون في تخصصاتهم.
وكيف يتوقع متابع الحجر المطلق، وفي كل جامعة عمادة للبحث العلمي.
إن استياءنا موجه إلى المتسرعين المعاندين، الذين يبتدرون المخالفة، ويستعذبون شق عصى الطاعة، ويذكون مسائل الخلاف المحسومة عند من وَكَلَ إليهم وليُّ الأمر رفع الخلاف من هيئات، ومجالس رضيت بهم العامة، وسلَّمَتْ لهم.
يتبع..