سأضع أمام القارئ بعض الخواطر، ليقول لي: هل تبدو مألوفة؟
«أنا محتال! أنا مخادع! أنا أكذب عندما أدعي الخبرة! سيكتشفون أني ضحل العلم! سيحتقرونني! بل سيضحكون علي!»
إذا كانت هذه من الأفكار التي تكثر في عقلك فأبشرك: أنت ألمعي!
من طرائف العقل البشري التي أتعجب منها: إنه بديهي تارة، وتارة يناقض البديهة. تظن أنه سيفعل شيئًا فيعاكس ظنك! إن الأفكار السلبية التي ذكرتها بالأعلى تنتشر لدى الخبراء والحصفاء. لو سألت أهل العلم الجم عن رأيهم الحقيقي في أنفسهم مقارنة بغيرهم لفاجأك عدد غير قليل بآراء مثل التي بالأعلى أو أشد! لماذا هذا؟ إنها «ظاهرة المخادع».
هذه الكلمة تصف الناقد الداخلي.. ظاهرة يشعر بها أكثر الناس وتشتد بين ذوي الكفاءة، فيرى أنه على كل ما أوتيه من علم وخبرة إلا أن لديه طريقًا طويلاً ليكون خبيرًا فعلاً، وأن الكثير غيره أعظم علمًا، وأنه لو زعم أنه خبير أو حتى وصفه الناس بهذا (برنامج تلفازي مثلاً) فإن هذه مخادعة للناس وكذب عليهم. تهاجمه الأفكار: «أنا؟ خبير؟ وهل أجرؤ أن أصف نفسي بهذا؟ الكثير أعلم مني! سينتقدني الخبراء الحقيقيون! سيظهر للناس أني محتال أدعي ما لست به!».
كل سنة يسأل الطلبة الجدد في كلية ستانفورد للتجارة (والذين لم يدخلوا إلا بعد إقرارهم من اللجنة): «من منكم يرى أنه هو الذي أخطأت اللجنة في قبوله»؟ وكل سنة يرفع ثلثا الطلاب أيديهم! هذا بالرغم من أن ستانفورد تحوي بعض أذكى وأفضل طلاب أمريكا كلها. يقول مايكل أوسلان منتج أفلام باتمان: «كلما كنت في استديو الفيلم أشعر أن أحد الحراس سيأتي ويلقيني خارجًا»! استبيإن وجد أن أكثر المديرين في الشركات يعانون من الناقد الداخلي مهما أظهروا الثقة، حتى إن بعضهم يقضي 80 في المئة من يومه في مصارعة الناقد. يقول بوب لوري أحد مديري مجموعة مونيتور الاستشارية المرموقة إنه في أول 7 سنوات من مهنته شعر أنه متى ما كان في اجتماع فإن الآخرين سيظنون أنه مخادع ومحتال.
ربما تظن الآن أن معدوم الخبرة سيكون أعظم شكًا وانتقادًا لنفسه ويكثر المقارنة مع الخبراء، صحيح؟ لا! وألف لا! هنا يأتينا العقل البشري الغريب بطامة تسمى ظاهرة «دونينغ-كروغر» شديدة الانتشار، وهي أن أقل الناس، علمًا في مجال هم أشد الناس ثقة في خبرتهم به! من لديهم علم موسوعي عن التاريخ سيرى أنه متواضع الخبرة، لكن الطالب الجامعي الذي قرأ قبل دقائق «مقدمة إلى التاريخ الإسلامي» سيرى أنه أحق الناس أن تضرب إليه أكباد الإبل لطلب العلم! سيناقش كثيرًا، سيبث آراءه في كل مكان، سيتعصب لها ويحتقر آراء الخبراء ويجزم أنه آت بما لم تأت به الأوائل.
أيها العالم حقًا، أيها الخبير صدقًا، ليطمئن بالك، فلست وحدك في نقدك لذاتك، بل أنت صاحب علم نافع إن شاء الله وخبرة نتشرف أن تشاركناها، ولا تبتئس، إنما الأحق بالشفقة أهل «دونينغ-كروغر»، أنار الله بصائرهم!