أما بعد فإن خير الكلام كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.. (حديث شريف). تبدأ قولبة الكلمة وتحويلها إلى معنى أثناء المراحل الأولى للطفولة حسب البرمجة التي يخضع لها الطفل من الكبار.
بناء ً على ذلك فهمت في مراحل الطفولة والشباب المبكر أن مضمون هذا الحديث الشريف في البدعة والضلالة لا يشمل الابتداع في العبادات فقط وإنما يتعداها إلى كل الأقوال والأفعال والاختراعات التي لم تكن معروفة في أيام السلف الصالح. فهمت الأمر هكذا لأن الكبار النافذين في مجتمعي أوهموني بهذا الفهم حين طبقوه على استعمال الدراجة الهوائية والسيارة والراديو والهاتف والبناء بالإسمنت والحديد، إلى آخر قائمة المصنفات في خانة البدع والضلالات، وهي لم تتوقف بعد.
لاحقاً بعد أن اكتسب بعض الإستقلالية الفكرية، بدأت أفهم أن الحديث الشريف يتركز على الابتداع في العبادات قولاً وفعلاً، ولا يشمل التعليم والمواصلات والطب والعمران والتفكير فيما هو خارج المألوف. استنتجت أيضاً أن تطبيق الكبار لهذا الحديث لم يكن في جميع الأحوال تعبداً خالصاً، بقدر ما أنه استعمل في بعض منها لخدمة الأنماط القديمة من الحياة الاجتماعية، لحمايتها من الاستبدال بما هو جديد، ولكن بهدف خدمة المستفيدين أولاً من بقاء القديم واستمراره.
منذ البدايات الأولى للتاريخ البشري بدأ العداء بين القديم والجديد. هو في الحقيقة استعداء المستفيد من بقاء القديم على المستفيد المحتمل من التجديد. المعادلة المصلحية في هذا الشجار المستمر مقلوبة بمعنى حرمان المجتمع من فائدة التجديد لصالح استمرار مصلحة المستفيد من القديم.
تولد ضرورة التجديد جزئياً بسبب الإحساس بالاحتكار، احتكار المنافع للقلة التي تملي شروطها على الأغلبية وتدافع بكل الوسائل لبقاء الوضع هكذا. المفترض أن يجد التجديد، كمحاولة لكسر احتكار المنافع، تأييداً واسعاً بين الأغلبية، لكن الذي يحصل دائماً هو وقوف الأغلبية ضد مصالحها المتوقعة من التجديد. المحرك الأقوى للوصول إلى هذه المعادلة المقلوبة كان دائماً هو التحريض الإجتماعي ضد المجددين.
كانت وما زالت أهم أدوات التحريض هي التخويف من حدوث كارثة ما، كعقاب يحيق بالجميع بسبب المروق الكامن داخل الخروج على القديم. وسائل التخويف هي التي تطورت مع الزمن حسب المستوى الثقافي الاجتماعي المكتسب.
في الأزمنة السحيقة كان التخويف يتم بالكوارث الطبيعية وتقلبات الطقس والمناخ وبالأشباح والكائنات الظلامية، ثم تطور إلى التخويف بغضب الأصنام والأوثان والآلهة المصطنعة والمفصلة حسب المخيال المناسب للتجمعات السكانية الواقعة تحت السيطرة.
بعد عصور الرسالات السماوية أصبح التخويف من التجديد يتم بالاجتزاء من النصوص المقدسة حسب متطلبات الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، حتى تبلور الاتهام بالتجديف والتزندق والخروج عن الملة وأصبح أنجع الوسائل وأقواها، لأنه يبيح التخلص من الفكر المجدد باستباحة التكفير والقتل.
حتى وإن تخلصت أكثر الدول والمجتمعات في الأزمنة الحديثة من هذه الآلية، إلا أن قلة من الدول والمجتمعات ما زالت تمارس مقاومة التجديد بالاجتزاء الانتفاعي من النصوص الدينية، وقد مورست بهذه الطريقة محاكمات وإقصاءات وإعدامات لم تنفع في صدها كل مواصفات حسن النية والطوية والمشهود بها للمتهمين.
عودةً على بدء، أي إلى البدايات الأولى للصراع بين القديم والجديد في التاريخ البشري يجب الرجوع إلى ما أثبته علماء التطور الحضري وعلوم الآثار عن الصراعات الاجتماعية الكبرى التي تكررت دائماً بين كل عصرين متتاليين. الانتقال من العصر الحجري إلى البرونزي جوبه بمقاومة شديدة، مما اضطر القلة القابلة للتجديد إلى الهروب خارج النطاق المعيشي الحيوي لأصحاب العقول والأدوات الحجرية، ولكن لم تمر سوى عقود قليلة من الزمن ثم تتبدل الأحوال بالكامل، فترجح الكفة الإنتاجية والتسليحية للعقول البرونزية فتكتسح المجتمع القديم وتضيفه إلى أراضيها الجديدة. النتائج ذاتها تكررت مرات بعد أخرى مع العصر النحاسي والحديدي، حتى وصلت اليوم إلى العقول النووية والإلكترونية في معاركها مع عقليات الاجتزاء من النصوص، وكانت النتائج دائماً محسومة لصالح الجديد المفيد.
لم يثبت ولا مرة واحدةً أن ربح القديم ضد الجديد، إلا في حالات ثبوت الضرر بالجدلية العقلانية قبل التطبيق على فساد الجديد. المهم هو أن إثبات الضرر يتطلب عقولاً منفتحة على كامل المكون الإجتماعي دون احتكار انتفاعي لقلة على حساب أغلبية.