ما أروع أن تحضر قيمة الإنصاف في كل مناحي الحياة، ومن جميل الإنصاف، الإنصاف مع النفس، فترى البعض يقسو عليها ولا يفتأ يجلدها حال الخطأ اليسير والزلل الدقيق، ويذكرها بمواقف قديمة ومشاهد عفا عليها الزمن، أنصف نفسك بالرفق واللين معها، وعاملها حال زلت كما تتعامل الأم الرؤوم مع ابنها الصغير إذا أخطأ، كما أن من الجور مع النفس أن تتعامل معها بمعايير عالية ومقاييس حادة؛ فلا تحفل بنجاح ولا تحتفي بتقدم ولا يرضيك أي تطور ما لم يبلغ حد الكمال.
ومن الإنصاف الذي ينم عن خلق رفيع ومعدن أصيل؛ أن تنصف الناس من نفسك حال الانفعال؛ فالبعض إن غضب جرّعك مسموم الشراب وسلقك ببذاءة اللسان، وأرسل عليك سيلا من قبيح الاستنقاص، فمن صور الإنصاف هنا ألا تصادر رأيا ولا تهضم حقا ولا ترد جميلا ولا تنشر عيبا ولا تضخم صغيرا، ولا تسفه عقلا ولا تقبح فعلا، وألا تعدو على الناس بالشر ولو كان في الكبد جمرة وفي الصدر حرقة! فإن أردت العيش الرخي، والبال الرضي, والذكر الحسن، والسعادة الحقة فأنصف الناس من نفسك.
ومن الإنصاف إنصافُ الوطن؛ فكثير ما تسمع التمجيد والمبالغة في الثناء على دول مجاورة وغير مجاورة والانفتان ببعض التفاصيل فيها؛ حتى غدا هذا عادة مألوفة وطريقة معروفة عند فئام من الناس! ومع هذا يأتي الانتقاص الرهيب من مكتسبات الوطن والتطورات المذهلة والنقلات النوعية؛ فلا ينظر أبدا لكل هذا، وتبقى نغمة الانتقاص حاضرة ورنة الانتقاد الجارح عالية، ومن يسمع كلام البعض يشعرك بأنك تعيش في بلد من القرون الوسطى! لا حضارة ولا نظام ولا تقدم وهذا اعتساف بيّن عن جادة الصواب؛ فمن الجور أن يكون الإنسان كتوم للنعمة، ساتر للفضل، لا يشكر نعمة، ولا ينشر جميلا، فلننصف بنشر الفضائل، والإشادة بالفضل، وإذاعة المكارم، والثناء على الصواب، فلا تصيد للأخطاء ولا تركيز على السلبيات ولا غض طرف عن الإيجابيات.
ومن الإنصاف المطلوب الإنصاف في الأسرة فقلة الذين يقدرون مواقف وإيجابيات الشريك؛ فاللغة الدارجة هي هضم الحقوق والتقليل من أهمية وجود الشريك وتهميش دوره، وما كان هذا إلا لمداومة النعم والاعتياد عليها فإذا ما ترادفت على البعض النعم، وتتابعت، زهد في قيمة الشيء! ومن الأزواج من يرى نفسه ملكا مطهرا ومن حوله شيطانا مريدا! فما أجمل أن يبدأ الإنصاف من بيوتنا لننشر ضياءه على المجتمع.
ومن جميل الإنصاف مع المخطئ والرفق به، ومن مظاهر هذه الإنصاف عندما ينكشف سترا لأحدهم ويجلي الله لك عيبا فأول درجات الإنصاف ألا تظنن نفسك بمنزلة أعلى منه؛ فربما سترك الله في أمور أعظم مما انكشف لك منه! والبعض يصفق طربا ويشهق فرحا إن بدا له عيب من أخيه! فمن الإنصاف أن نعامل من حولنا كبشر عرضة لزلل فلا تضخيم ولا تعميم بل احتواء وتوقع الخير واصطناع العذر له, وبهذا التصرف المتحضر نقطع تذكرة العودة لهم؛ فهذا الصحابي الشارب للخمر لما لُعن دافع عنه الحبيب اللهم صل وسلم عليه فورًا واعتذر لهذا الشارب بأنه يحب الله ورسوله!
ما أعظم الأشخاص عندما ينصفون وما أروعهم حينما يعدلون والسبيل إلى تلك العظمة هي أن نلاحظ الحسن ونثمنه ونشكر عليه، نتتبع الإيجابيات ونقدر الحسنات فعندها سيتضاعف العطاء ويقيناً ستحلو الحياة.
ومضة قلم:
من علامات نضج الإنسان أن يكون إحساسه بالآخرين يوازي حرصه على حماية مشاعره!