أخذت حملة الاستهزاء بالرموز الإسلامية مساحة واسعة من الإعلام الحديث منذ بدأت في 30 سبتمبر 2005، عندما قامت صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية بنشر 12 صورة كاريكاتيرية للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ونجح مثيرو الحملة في تحويلها إلى قضية حرية تعبير، وحققت الحملة أهدافها، وزادت نبرة التطرف في الخطاب الإسلامي، وزاد من ذلك أن نجحت «القاعدة» في تأجيج الصراع بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، والوصول إلى حالة الفوضى الدموية كما يحدث في العراق واليمن.
وقبل الخوض في الموضوع لابد من التأكيد أن الاستهزاء والسخرية في العموم أمر مستنكر، فما بالك أن تطول نبي الرحمة نبرة من السخرية، والدين الإسلامي أول من وضع حداً للاستهزاء والسخرية بالآخرين أياً كانوا، وجاء ذلك في نص قرآني صريح، كذلك نهى الإسلام عن ثقافة الانتقام والثأر، وذلك لمخالفته لمبادئ العفو والوعظ بالحكمة والحسنى، والأهم من ذلك أن لا يكون الرد من خلال تحريض المجتمع على ثقافة الانتقام أو القيام بدور القاضي في قضايا يستخدمها إعلام التطرف في وسائل التواصل الاجتماعي في مهمة الوصول إلى أغراضه.
ومثال ذلك أن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي لقاء مع الشيخ صالح بن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء، بالمدينة المنوّرة، تحت عنوان مثير: «لو بيدي لجعلت الليبراليين رابع الجمرات». برغم من أن محتوى اللقاء إجمالاً يخالف العنوان المثير، فقد كان الشيخ يتحدث عن المتطاولين على الذات الإلهية والرسول الأمين، ولم يحدد جماعة، برغم من أن المذيع استخدم مصطلح الحملة الليبرالية للتطاول على المقدسات، وفُهم من حديثه ذلك، وتم تحوير المحتوى من قبل الناقل على أنها دعوة لرجم الليبراليين.
تعد الليبرالية من أكثر المصطلحات غموضاً في الثقافة المعاصرة، وما زال سؤال من هو الليبرالي؟ لا يحمل إجابة محددة، ويحاول الخطاب الإرهابي أن يضع المثقفين والنقاد وأصحاب الرأي والمخالفين للفهم المتطرف في الدين في سلة الليبرالية، والذي لا يعني في تفسيراته مفاهيم محددة، وهل يدخل الليبرالي الاقتصادي ضمن التعريف؟، وهل المثقف الذي يعبر عن وجهة نظر نقدية يدخل في ذلك، وهل العلماء الذين يفكرون بتجرد من الأيدولوجيات داخل معاملهم ليبرالون؟.
كان منهج التفكير المنهجي غير المقيد خلف الانفجار المعرفي والعلمي في الغرب، وكان التحريض ضد العقل والتفكير خلف إنهيار الحضارة العربية في التاريخ الإسلامي، ولا زلنا إلى اليوم مكبلين بأغلال تحارب التفكير المنهجي، فما بالك بالحر، وتستخدم دروع التكفير والدعوة إلى العنف في إحكام القبضة على العقول. ومن نتائج ذلك أن العرب في الزمن المعاصر يعيشون على هامش الحضارة الإنسانية، وتاريخهم الحديث يكاد يخلو من براءات الاكتشافات العلمية.
لا يكتفي خطاب التطرف والعنف بالدعوة إلى حصار العقل ومنع التكفير الحر، ولكنه يستخدم العامة في الوصول إلى غايته، ويستخدم إساءات مرفوضة من الجميع لإقصاء المخالفين لهم، وهو عادة ما تكون مقدمة لمشروع انتقال مرجعية القضاء إلى سلطة العامة، وهو ما نرفضه، فحالة السلم الاجتماعي يجب أن تكون خطاً أحمر أمام خطاب التحريض الدموي، وعادة لا تجدي لغة الانتقام والتفجير في تغيير العقول، بل تزيدهم إصراراً وعناداًِ في غيهم كما يحدث الآن في أوروبا.
لذلك وددت أن لا يكون الشيخ المغامسي وحديثه التلفزيوني وسيلة للتحرض ضد المفكرين والمثقفين تحت غطاء الحرب ضد مصطلح الليبرالية الغامض، مثلما استخدم بعض المسلمين الأوائل مصطلح الزنادقة للانتقام من بعض المفكرين والعلماء في القرون الأولى، وكانت نتيجته كارثية، فقد تقوقع العرب على أنفسهم خلف أسوار الخطاب العنيف والتكفيري، وكانت نتيجته غياب دام خمسة قرون، وما زال البعض يحاول أن يعيد العرب إلى كهوف التوحش والتطرف.
كذلك تمنيت أن لا يقوم الشيخ بدور القاضي ضد المتطاولين، وأن لا يدعوا إلى قتلهم، أو رجمهم، وأن لا يعمم، ويترك ذلك إلى القضاء، فقد عفى رسول الله عليه أفضل الصلوات والتسليم عن كعب بن زهير عندما جاءه تائباً من هجاءه للنبي والإسلام،، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعفو عن الإرهابين الذين ساقوا أبل الصدقة وقتلوا الرعاة، ونفذ فيهم حد الحرابة، بعد أن سعوا في الأرض فساداً، فهل نحن بالرسول الأمين مقتدون؟، أم أن الأمر لا يخلو من دعوات مبطنة للفتنة الدموية، والله علي ما أقول شهيد.