انتقل عبدالله بن عبدالعزيز إلى لقاء ربه، بعد أن قدم صوره ملفتة للنظر عن الشخصية العربية الأصيلة، فقد كان بحق رجلاً من الماضي التليد، وكان سر عظمته في بساطته وصدقه عند التواصل مع شعبه، فقد كان يعبر بدون سواتر لغوية عما في داخله، وكانت أفعاله مرآة لأقواله.
فكان زعيماً بالفطرة، واضحاً في تعبيراته وإيماءاته، لا يلتفت إلى سفائف الأمور، ولا يهتم بالصغائر، فكان همه الأول والأخير أن يقدم خدمات وإنجازات لهذا الوطن تكون بمثابة مفترق الطرق في مستقبل الوطن، كان عفوياً في قراراته السياسية، ولم يختبئ خلف السواتر الدبلوماسية، فقد عبر عن رؤيته السياسية الخارجية بجرأة وبصراحة غير معهودة، فكان مؤثراً على الساحة السياسية.
كان رحمه الله يملك قدرة على اختراق الحواجز الاجتماعية والتقليدية، وظهرت تلك القدرة في قراراته التاريخية لإدخال المرأة إلى مجلس الشورى وسوق العمل، وفي قرار ابتعاثها إلى الخارج، وفي زيارته للأحياء الشعبية، كان يؤمن بأن القافلة يجب أن تسير للإمام، لكنه في نفس الوقت لا يكترث كثيراً بالأصوات المناوئة للتغيير، ولا يتوقف عند كلماتهم أو أقوالهم أو كتابتهم، ويكتفي بالأفعال العظيمة.
ما أنجزه في قطاع التعليم العالي هو حسب تقديري أهم منجز في تاريخ الوطن إلى اليوم، فقد وضع بذلك القرار العظيم الوطن في مدرج الإقلاع نحو الاستقرار، فالشعوب المتعلمة أكثر حباً للسلام والاستقرار من الشعوب التي تنتشر فيها الأمية المعرفية، وكان من نتائجه أن أبتعث مئات الآلاف من أبناء هذا الوطن إلى الخارج لتلقي العلوم الحديثة، وكأني به يقدم العلاج الشافي للوطن من أمراض التطرف والجمود والخوف من التغيير.
فتح (رحمه الله) الأبواب للدخول في عصر المعرفة الثقافية، وسهل من القيود على معارض الكتاب، وقفزت الثقافة والحرية الإعلامية في عصره إلى مستويات غير مسبوقة، وحاول جاهداً أن يقدم صورة مضيئة عن التدين الحقيقي، والذي لا يعني على الإطلاق التسلط ومطاردة الناس في خصوصياتهم، ولكن يعني الحرية المسؤولة وتقديم الثقة على الشكك، وقيم احترام الآخر على العدوانية، والمعاملة الحسنة على العنف اللفظي.
ما قدمه من ميزانيات ضخمة لبناء البنية التحتية في مختلف المناطق سيسهل كثيراً من صعوبات إدخال البلاد في المستقبل إلى مراحل أخرى متقدمة في الصناعة والتجارة، فقد كانت مشروعات النقل بمختلف وسائله نقلة نوعية في تاريخ الوطن، وكان مشروع السكك الحديدية مقدمة لتعزيز الاقتصاد الوطني في الداخل.
كان يمقت الفساد وحاول كثيراً أن يضع حدوداً له، وما تركه من احتياطي نقدي ضخم للوطن يكفي في أن يكون خير عنوان لرحيل رجل وطني بكل ما تعنيه الكلمة..، رحم الله الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
وأعان الله خلفه الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- على تحمل المسؤوليات الجسام، وعلى إكمال مسيرة نقل الحضارة الحديثة لهذا الوطن العظيم، ونقل البلاد من مرحلة الاستهلاك إلى الإنتاج، والتي ستكون بدون شك المنجز التاريخي الأهم، والذي سيسطره التاريخ بأحرف من ذهب.. حفظ الله الوطن؛ والله على ما أقول شهيد.