في واشنطن مع شروق الشمس التي لم تشرق بعد، وأمام النافذة التي لا أرى خلالها سوى هطول نتف قليلة من الثلوج الحزينة، كنت أفكر فيما سأكتب لمقالي يوم الأربعاء. مسكت القلم لأكتب عن فقيدنا عبد الله فسال حبر القلم حزناً حتى جفّ، فقلت في نفسي إذاً سأكتب عن ملكنا سلمان، فتشاجرت الخواطر في ذهني واشتد صراعها، فقلت في نفسي، لن أكتب عنه الآن حتى تهدأ تلك الأفكار وتتزن، ولكن عن ماذا سأكتب؟.. وأطرقت أستجمع أفكاري فتخيّل لي الوطن في انعكاس النافذة، كان زاهي الثياب جميل الهيئة مرفوع الرأس وسيفه بين يديه على منكبيه كما لو كان في عرضة تدق طبولها في الفضاء، نظر لي نظرة المكلوم والعبرات تكسر صوته الرنان، ثم قال: « اليوم لا تكتب نبض خاطرك، اليوم فقط سأملي عليك وأنت اكتب ما أقول، أنا يا ولدي أنتم، إن صدقتم صدقت وإن كذبتم ندمت وإن تحاببتم سعدت وإن تشاجرتم غضبت، ودكم لبعض يسرني ويطربني حديثه ويسوؤني حديث النفاق والشقاق ويمرضني الخداع والنزاع، يا ولدي بحبكم يشتد عودي وبتضامنكم يصح بدني وبجهدكم تتحقق طموحاتي».. سكت الوطن وهو يمسح دموعه ثم قال: «ابدأ السطر من جديد وأكتب ما أقول».
«يا ولدي، منذ أن أصبحت لكم وطناً وأنا أتطلع لكم، أجود بما أستطيع وأتحمل عنكم نوائب الدهر، أجدادكم كانوا عظاماً بما تيسر لهم، تقاسموا يسر الحياة وشدتها، وتحاربوا لا لينقسموا ولكن ليتحدوا، كان الزمن زمن الشقاء والبلاء ولكن إرادتهم جعلت الزمن يغير من طبيعته فأصبح الزمن زمن الود والألفة والمحبة، ضربوا الأرض فانتفضت وأخرجت لهم كنوزها، وضربوا البحر حتى ركدت أمواجه فجابوا الأرض بحثاً عن الحياة في أصقاعها وجلبوها لي أنا الوطن حتى أحتليها وأتزين بها أمام أوطان الآخرين، يا ولدي لو لم يعتن بي أهلكم قبلكم ما وجدتني بهذا الحُلة القشيبة، يا ولدي أنت تحزن اليوم لأنك فقدت الملك عبد الله وأنت لم تعرفه عن قرب كما عرفته أنا، أنا يا ولدي أنت فقدت رجلاً وأنا فقدت ابناً برّ بي ورعاني واجتهد ليحقق رضاي، يا ولدي أنا اليوم أفقد ابناً كما فقدت الملوك الذين سبقوه وكنت أحزن في كل مرة أفقد أحدهم، ولكن الزمن يا ولدي علمني أن خسارتي هي فرصة لمكاسب جديدة، فكما أفتقد عبد الله أكسب سلمان وأكسب هذا الحب الذي تجيش به صدوركم تجاه البعض، اليوم يا ولدي يسعدني هذا الزخم الهائل من العواطف الجياشة التي تحيط بكم كمواطنين وتجمعكم تحت راية الوحدة مع حكامكم، ويسعدني يا ولدى هذا الوئام بين من بيدهم حكمي كوطن وتضحيتهم لبعض من أجل أن أبقى الوطن الشامل والصحيح والجامع لكم، يا ولدي الأوطان الأخرى التي بجواري تعاني أمراضاً أنكتها وأوجاعاً أنهكتها وصراعات مزقتها، وأنا كما تراني اليوم أتجمل لكم وأتعطر بسعادتكم وأزدهر بجهودكم
وإخلاصكم، يا ولدي كانت أمم العالم الأخرى تنظر لكم في وفاة الملك عبد الله رحمه الله، بين متوجس وقلق ومستشعر الخلل، ولكنكم يا ولدي أسعدتموني ورفعتم رأسي عالياً بين الأمم عندما اجتمع الرأي بين أهل الأمر وسادته وتعزز بولائكم وبيعتكم للملك سلمان - حفظه الله ورعاه - وشد عزيمته وجهوده وبيعتكم لولي العهد مقرن الذي أطمح بسنده لأخيه الملك ورعايته لشؤون الأمة، وما أثلج صدري وزاد في غبطتي هو إسناد ولاية ولي العهد للأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، فقد عرفت في هذا الابن البار الإخلاص والتفاني في خدمتي كوطن، هذا الابن حطم سلاسل البغي والإرهاب التي كانت تريد تمزيقي ونذر نفسه وحياته وراحته حتى أكون الوطن السليم المحبوب بين أوطان الدنيا، يا ولدي أعلم أن لديك الكثير الذي تريد أن تكتبه، ولكن هذا اليوم هو يوم لي أنا، وأنا من يجدر به أن يكتب، ومع ذلك سأترك لك أن تكتب خاتمة المقال كما كتبت أوله».
أفقت من حديث الوطن، وليتني لم أفق فقد كان كلامه جميلاً وعباراته عظيمة، وأسعدتني ابتسامته وهو يقول: «هيا اختم المقال بما تحب أن تقول: لذا سأختم مقالي هذا بعبارة واحدة وهي: (لله درك يا وطن.. ما أكرمك وما أروعك.. وما أسعدك بنا ونحن منك ولك.. والعز لنا بك ومنك ولك).