قام الفكر الغربي على رفض اعتبار المرأة كائنًا عقلانيًا كاملاً، هذا الرفض امتد من (أرسطو) عبر فلسفة القرون الوسطى، وضمن في افتراضات الفلسفة الكلاسيكية الليبرالية ابتداءً من (ديكارت)، بل إن أساس نظرية المعرفة عند (أفلاطون) يقوم على مركزية ذكورية عندما ربط بين المعرفة وبين الضوء الذي يوجد خارج الكهف، قصد بأن يرمز «الضوء» إلى المعرفة التي يتوق الذكر إليها.
وأن يرمز «الكهف» إلى رحم الأم التي يرتبط بها كل ما هو أرضي ومظلم وغير معرفي، وقد تم رفض هذه الفلسفة على اعتبار أنها فلسفة ذكورية تقليدية ناتجة عن سمات نفسية لكون الأم هي المسئولة عن تنشئة الطفل. لذلك استفادت «الابستمولوجية النسوية» الذي تناقش أهمية العلم المنهجية، من تحولات ما بعد الحداثة في إعادة النظر إلى هذا الذي ذهبوا إليه وبالتالي الإشارة إلى أن إقصاء النساء عن الإنتاج اللغوي في الغرب في تلك العصور جعلهن عاجزات عن إنتاج معانٍ ومدلولات أنثوية ضمن الخطاب اللغوي. وبالنسبة لـ أطباء العصر الفكتوري فقد اعتقدوا أن الوظائف البيولوجية في جسد المرأة تستنزف 20% من طاقتها الإبداعية ونشاطها العقلي، كما اعتقد علماء الإنسان الفكتوريين أن الفصوص الأمامية لدماغ الرجل أثقل وزنًا وأكثر تطورًا عن مثيلاتها لدى الأنثى، وهكذا جرى الاعتقاد بأن النساء أقل ذكاءً وأضعف ذهنيًا من الرجال.
وبالتالي نتج عنه ابتكار باحثة فرنسية لـ»نظرية قلق الإبداع أو قلق التأليف»: وهو إحساس ينتاب النساء عند الكتابة، وذلك بالبحث عن نساء كاتبات ملهمات ولكنهن لا يلجأن إلى قتلهن (مجازيًا) من أجل الابتعاد عن التقليد أو المحاكاة وإنما إلى الابتعاد عنهن والسمو فوق ذلك الإعجاب والتعلق من أجل خلق جديد وإبداع مستقل؛ وتورد الكاتبات تبريرات ذلك بالقول: إن الإحساس بالوحدة لدى الكاتبة أو الفنانة، والأحاسيس الأخرى مثل الغربة تجاه الشخصيات الأبوية المبدعة من الرجال في الإرث الثقافي والأدبي مع إحساسها بالحاجة إلى البحث عن الأسلاف من النساء والشعور بالحاجة إلى جمهور من النساء والخوف من العداء المتوقع من النقد الذكوري، وارتعابها من السلطة الأبوية للأدب، وقلقها من إحداث البذاءة في الذوق العام الرجولي التوجه الذي غالبًا ما يلصق بالإبداع الأنثوي، كل ذلك الإحساس «بالنقص» غذّى كفاح المرأة لتعريف ذاتها الفنية وإقرار اختلاف جهودها نحو خلق ذات مختلفة عن نظرائها من الرجال.
أما الناقدة النسوية «النفسية التحليلية نانسي جودورو» فقد فنّدت ادعاءات (فرويد) وذلك بالعودة إلى مرحلة نفسية أخرى تسمى بمرحلة ما قبل الأوديبية لتفسير الاختلاف النفسي - الجنسي لدى الأنثى. ففي هذه المرحلة تكون الأم هي «الآخر» الوحيد للطفل ذكرًا كان أم أنثى، عندها يميز الذكر نفسه على أنه النظير السلبي لكونه يختلف جنسيًا عن أمه، على عكس الأنثى التي تدرك هويتها إيجابيًا بالتماثل مع هوية أمها من حيث الجنوسة.
وفي وقفة لي مع كتاب «هوس العبقرية.. الحياة السريّة لماري كوري» تأليف: باربارا جولدسميث، بهدف الربط ما أوردته أعلاه وبين شخصية نسائية كانت مثيرة للجدل في زمنها، حيث أجد أن المؤلفة تمكنت من إزاحة الخمار عن قدرة هذه المرأة، أقصد ماري كوري البولندية 1867-1934م، وأخذنا من يدنا إلى حياة عالمة الفيزياء والكيمياء الحائزة على جائزة نوبل مرتين: مرة في الفيزياء وأخرى في الكيمياء، أول امرأة تتبوأ منصب الاستاذية في جامعة باريس، وأول امرأة تحصل على جائزة نوبل، والمرأة الوحيدة الحاصلة على الجائزة في مجالين مختلفين. هذا ما نعرفه عن تلك المناضلة الرمز، أما ما لا نعرفه فقد أوردت المؤلفة شيئًا منه في كتابها.
ولدت ماري في نفس السنة التي نشر فيها كارل ماركس الجزء الأول من «رأس المال» وسجل فيها الفريد نوبل اختراع الديناميت. كتبت «باربارا» تقول: (وقد تحطمت على صخرة الواقع الفكرة التي كانت سائدة في ذلك الوقت عن أن النساء لسن مؤهلات فيزيائيًا أو ذهنيًا للدخول إلى قوة العمل.. وكانت المهن المسموح لهن بها محدودة، وهي التعليم والتمريض في معظمها)ص12. وذكرت أن ماري كوري، وهي طالبة كانت (تستغرق في القراءة بالساعات وأحيانًا بالأيام. كانت قليلاً ما تتحدث)ص27. وبالنسبة لشخصيتها في صغرها فقد (كانت خجولة ولا تندمج بسهولة مع المعارف الجدد من الناس، ولم تكن تستسيغ الأحاديث السطحية) ص36. كتبت ماري ضمن ما كتبت في قصة حياتها (لا يمكن أن نأمل في بناء عالم أفضل دون تحسين الأفراد) ص34. (لا تدع قط أحدًا أو حادثًا يهزمك) ص41. (علينا الاهتمام بالأشياء، وليس بالأشخاص) ص45. ولأن التعليم العالي وقت تخرج ماري ممنوع على الإناث فقد أسس أحد البولنديين الوضعيين، في العام الذي تخرجت فيه، أكاديمية سرية للتعليم العالي للإناث.
في سنوات دراستها للعلوم كانت (تتحدث بصوت عالٍ لجدران غرفتها المتشققة بالفرنسية في محاولة للوصول إلى نطق سليم تمامًا) ص47. وكانت في تلك الفترة في سنوات عزلتها في فرنسا. المرحلة التي كانت فيها ماري والسنوات كان وضع المرأة لا يقل شأنًا عن الذي افتتحت به المقال، حيث استرسلت المؤلفة في تصوير الوضع، وقد كتب أحد النقاد الفرنسيين في زمن العالمة يقول: (وظيفة المرأة هو الجنس والإنجاب) ص48. لكن ماري ناقضت هذا الرأي وشكّلت لنفسها أسطورة نسائية مبهرة، المرأة الرمز التي (ألهمت الكثير من النساء، بعد أن تحررت من القيود المفروضة على جنسها) ص151. والوضع في وقتها كان (غالبًا ما يتوقف تعليم البنات في فرنسا والنمسا وألمانيا عند بلوغهن سن الرابعة عشرة. ويتجهن بعد ذلك إلى تعلم المهارات المنزلية لتجهيزهن للزواج وإنجاب الأطفال. وكانت المدارس الإعدادية للفتيان فقط... كان محرمًا على النساء دخول الجامعات في فيينا حتى عام 1899م) ص163.
وبالتالي لم تسلم ماري من تقليل العلماء الذكور لتاريخها العلمي نتاج سلسلة التعصب ضد المرأة والغيرة. المرأة في فرنسا تلك التي انضمت إلى حركة المطالبة بحقوق المرأة، صحيح أن الحركة استغرق أمرها سبعة عشر عامًا قبل تحرير المرأة في فرنسا لكنها تحررت، وكان لماري كوري دور جبّار في ذلك، تلك المرأة التي قبل أن تموت قالت آخر كلماتها: «أريد أن أترك في سلام».