سقوط الاتحاد السوفييتي ومن ثم تفككه إلى دول مستقلة، ومعه منظومة الدول التي تسمى حينها الدول الاشتراكية، في العقد الأخير من القرن العشرين، جعل زعامة العالم وبلا منازع، تتجمع في ضفة الدول الغربية الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
والسؤال المطروح الآن : هل هذه الزعامة نهائية، أم أن زعامة العالم هي دائما وأبدا محل تجاذب بين الحضارات والأمم، كما يثبت التاريخ؟
في رأيي أن الذي انتصر بسقوط الفكرة الاشتراكية ليس الغرب كأمم، وإنما فكرة السوق والليبرالية الاقتصادية، وحرية التنافس بين المنتجين داخل المجتمعات، وهزيمة كاسحة للاقتصاد الموجه؛ بمعنى أن حافز التفوق الإِنساني، ودافع الإبداع، هو السعي وراء (الربح)، فهو بمثابة الآلية التي تُحفز الإِنسان لكي يكتشف ويبتكر ويبدع ويسعى إلى الأفضل؛ فإذا ضَعُفت هذه الآلية، أو اختلت، أو غابت غيابا كاملا أو جزئيا، فإنَّ ذلك ينعكس بالضرورة، وبشكل سلبي، على مسيرة الإبداع والتقدم الإِنساني في كافة المجالات الإنتاجية، فيتخلف المجتمع، والعكس صحيح؛ أي كلما قويت هذه الآلية، وتم حمايتها بالقوانين، وتيسير السبل لها لكي تعمل دون قيود، ودون أن تتدخل الدولة في عملها إلا بما ينأى بها عن التوحش والجشع والاحتكار، فإنَّ هذا يعني أن مسيرة الإبداع والابتكار والتفوق ستزدهر، وتنعكس إيجابيا على مكونات وعطاء المجتمع بأسره. وهذا كُنه الفكرة (الليبرالية) الغربية، التي تم اختصارها في مقولة (دعه يعمل، دعه يمر).
الصين بعد سقوط الفكرة الاشتراكية وفشلها، أمام فكرة حرية السوق والليبرالية، اتجهت شيئا فشيئا لانتهاج اقتصاد السوق والتخلي تدريجيا عن الاشتراكية وملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج في المجتمع، أما الهند فقد كانت تاريخيا الأقرب إلى اقتصاد السوق، مع تبنيها لبعض الأفكار الاشتراكية في مجالات محدودة لأسباب مبررة وموضوعية.
اتجاه الصين والهند ذات الكثافة البشرية الهائلة إلى اقتصاد السوق، يعني أن الأمم الغربية لا تستطيع عمليا منافستهما، بسبب وفرة العمالة بأسعار متهاودة، الأمر الذي يجعل تكلفة العمل في أي عملية إنتاج صناعية عند مقارنتها بتكلفة العمل في الدول الغربية، تصب في مصلحتيهما، لتجعل فـي النتيجة حصتيهما في الأسواق العالمية بسبب رخص أسعار المنتج النهائي في تزايد مستمر، وهذا يعني أن منافسة منتجاتهما في الأسواق العالمية، ومنافسة أسعارهما، شبه مستحيلة. وهذه هي المعضلة بالنسبة للغربيين التي تشير كل الأرقام والإحصاءات إليها؛ لذلك فالغربيون سيواجهون خلال العقود القادمة من القرن الواحد والعشرين مصاعب جمة في قدرتهم على التسويق والسيطرة على العالم، خاصة أن فرق الجودة والنوعية التي قد تكون مبررا لغلاء أسعار السلع والخدمات الغربية ستضمحل مع الوقت حتماً، ليبقى الفرق في السعر هو الفيصل الوحيد بين السلع في الأسواق العالمية.
هذه القضية، أو سمه الخطر على زعامة الغرب للعالم، هو محل نقاش وحوار بين الساسة والاقتصاديين في الغرب، ومن أهم الأفكار المطروحة لتفادي غلاء أسعار عنصر العمل في العملية الإنتاجية، استبدال العمالة الإِنسانية المكلفة، بالريبوت - (الإِنسان الآلي) - والكمبيوتر، ما يجعل تكلفة عنصر العمل في الإنتاج منخفضا، وبالتالي تكلفة المنتج النهائي ذات أسعار منافسة. غير أن ذلك، في حالة التوسع فيه، يعني أن انعكاساته الاجتماعية، وبالذات في ما يتعلق بازدياد البطالة، ستكون كارثية، ولا سيما أن تفاقم البطالة في المجتمعات الغربية، خاصة في أمريكا، هو الشغل الشاغل الذي يؤرق السياسيين، ويقض مضاجعهم.
كل ما أريد أن أصل إليه في هذه العجالة، أن الغرب الذي أسقط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وانتصر، ويسيطر الآن على العالم، لن تكون سيطرته نهائية، فمن يملك السوق هو الذي يملك القوة، ويسيطر بالتالي على العالم، وكل المؤشرات التي أمامنا الآن، تشير إلى أن الصين والهند هما من سيكون لهما القوة والسيطرة في القرن الواحد والعشرين وليس الغرب. إلى اللقاء